في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الرابع:)السياسة المعكوسة(53)
كاتب الموضوع
رسالة
بشير الغزاوي
المساهمات : 726 تاريخ التسجيل : 11/12/2010
موضوع: في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الرابع:)السياسة المعكوسة(53) الأحد يناير 08, 2012 3:28 pm
في سبيل البعث: الجزء الرابع: الباب الرابع: السياسة المعكوسة(53) السياسة المعكوسة: خصصت للشعب دهاءها وخصت عدوها بالوفاء نستطيع القول(1) ان السياسة الخارجية في الدول الراقية هي وحدها التي ينطبق عليها المفهوم الرائج للسياسة عندنا، اي انها تتصف بالدهاء والكذب والانانية وليس اشبه بسياسة الغربيين الخارجية من سياسة العرب الداخلية. فالدول الغربية لا تزال تجيز لنفسها اللجوء الى الاحتيال والمكر في علاقاتها مع الغير، لكي تحافظ على كيانها، وتوسع نفوذها. ولكنها قد هجرت منذ زمن طويل هذا الاسلوب في داخل بلادها، وغدت علاقة الحكومات بشعوبها قائمة الى حد بعيد، على الصراحة والصدق وحسن النية. هكذا نرى تشرتشل وايدن وغيرهما من حزب المحافظين الانكليزي يسايرون الاتحاد السوفييتي في زمن الحرب ليكسبوا محالفته، لأن مصلحة بريطانيا تقضي بذلك، حتى اذا تبدل الظرف وزالت المصلحة، رأيناهم ينتقدونه اشد الانتقاد، ويظهرون العطف على ألمانيا التي كانوا بالامس الد أعدائها. ولكنه لا يعقل ان يرى تشرتشل وزملاؤه المحافظون يدافعون في داخل انكلترا عن النظام الرأسمالي تارة، ويدعّون الاشتراكية تارة اخرى. وهكذا نرى ايضا ان الرئيس ترومان يخون ابسط مبادئ الديمقراطية عندما ينتصر للصهيونية على العرب، ولكنه لا يستطيع، في بلاده الديمقراطية، ان يعطل صحيفة ولو يوما واحدا. اما الحكومات العربية، فان ما منيت به من ضعف وعجز قد فرض عليها ألا يكون لها سياسة خارجية بالمعنى الصحيح، لذلك فهي توجه كل دهائها السياسي الى الداخل.. فهذه الحكومات في حقيقتها استبدادية تعطل الصحف، وتلغي الأحزاب، وتقمع حركات الشعب بالقوة، ولكن ذلك لا يمنعها من الاشادة بالحكم الدستوري والتغني بالديمقراطية. وهي ايضا حكومات اقطاعيين ورأسماليين مجوعين الشعب، ولكن ذلك لا يمنع رئيس الوزارة السورية من ان يقول منذ اشهر في مجلس النواب انه سيكون اشتراكيا عند اللزوم، كما لم يمنع ذلك رئيس الوزارة المصرية من ان يسمي حكومته، منذ اسبوعين، حكومة اشتراكية! اما من حيث العلاقات الخارجية فيصح، بمعنى من المعاني، ان تعتبر حكوماتنا اصدق دول العالم، ولو انه صدق لا اختيار لها فيه، فهو مفروض عليها كنتيجة لضعفها واستسلامها لمن هو اقوى منها. فالحكومات العربية اصدق خلق الله في تنفيذ ما تعهدت به، ان سرا وان علنا، لبريطانيا والولايات المتحدة، اما المكر والدهاء والانانية الجشعة، والتكالب على النفوذ، فقد أبقته لسياستها الداخلية. وهي لا تترك وسيلة من وسائل الخداع، ولا تهمل اسلوبا من اساليب التمويه الا لجأت اليه حتى تتملص في تعهداتها نحو شعوبها، وتتراجع عن تصريحاتها الباطلة، وحتى تقود الشعب في النتيجة الى ان يقبل بشكل من الأشكال ما فرضه الاجنبي عليها لقاء دعمه لمراكزها. ان المبدأ العملي الذي يمكن استنتاجه من سيرة السياسة المتبعة في الغرب هو: ان الحكومات تعامل شعوبها على اساس الصداقة، لأنها في الواقع تخرج من هذه الشعوب وتمثلها حق التمثيل وان هذه الحكومات، من جهة اخرى، يعامل بعضها بعضا على اساس العداء، مهما كانت الأساليب لبقة، والأشكال مزوّقة، وان كل حكومة تفترض في غيرها الطمع وحب السيطرة، فتحتاط لذلك بالحذر والحيلة ومقابلة الشر بمثله. فاذا عكسنا الآية، وقلبنا الامر رأسا على عقب، وجدنا امامنا سياسة الحكومات العربية واضحة جلية. فالاساس في علاقة هذه الحكومات بشعوبها هو العداء وليس يعني هذا انها تكره شعوبها كرها عاطفيا، بل العكس يكاد يكون أقرب الى الواقع، وانما هي مدفوعة بعامل المصلحة، مصلحة اشخاصها وطبقتهم الاجتماعية، وبعامل الدفاع عن الذات والمحافظة على المركز والجاه، الى ان تكره ما تحب وتحب ما تكره.. فالحال الطبيعية هي ان يشعر رجال الحكم في قطر عربي ما، مهما كانوا بعيدين في تربيتهم وتفكيرهم ونمط حياتهم عن حياة الشعب، ببعض الحب لهذا الشعب الذي يتسمون باسمه ويعيشون من جهده، ويستمتعون بالمجد على حسابه. والحال الطبيعية تقضي ايضا بأن يكنّ هؤلاء الرجال للدول الأجنبية الطامعة ببلادهم، المنافسة لهم على المنافع والأرباح، الشيء الكثير من الكره. ولكن المسألة هي ابعد ما تكون عن العواطف. فالمحتوم على الحكومات العربية ان تعادي شعوبها دون كره لهذه الشعوب، وهذا العداء يفرضه التناقض العميق الحاد الذي يقوم بين حكومات لا تستطيع البقاء في الحكم الا اذا استبعدت شعوبها وأفقرتها، وبين شعوب لا تستطيع تأييد من يفقرها، ودعم من يذلها ويستعبدها. والمحتوم كذلك على الحكومات العربية ان تصادق الدول الاستعمارية دون حب لهذه الدول، وذلك لأن هذه الحكومات مخيرة بين اتباع احد طريقين: اما ان تقاوم الدول الاستعمارية مقاومة جدية، وهذا يضطرها الى ان تحشد جميع إمكانيات الشعب، وترفع من طريقه كل ما يعوق نشاطه وارتقاءه، فلا يبقى امامها مجال لاستغلاله وظلمه، واما ان تصر على اسغلال الشعب، فتفقد تأييده في مقاومة الدول الاستعمارية، وتخسر معظم قواه النضالية التي يخنقها الفقر، ويطمسها الجهل، ويقتلها الظلم والضغط فتضطر الى مهادنة هذه الدول والاتفاق معها على تقاسم النفوذ والمنافع. هكذا تظهر لنا صحة المبدأ الذي قررناه في اول هذا المقال، وهو ان علاقة حكوماتنا بالدول الأجنبية هي اشبه شيء بعلاقة حكومات هذه الدول بشعوبها، لأنها تقوم على اساس الثقة والتفاهم والتمثيل الصحيح، وما حكوماتنا الا ممثلة صادقة الى حد بعيد شاءت أم أبت، لمصالح الدول الاجنبية في بلاد العرب. ولكنها ابعد ما تكون عن تمثيل مصلحة الشعب العربي، لذلك فهي في علاقتها به تحتاج الى ابرع انواع السياسة وادهاها. والحق ان علاقة الحكومات العربية بالشعب ليست الا علاقة طرفين اجنبيين، تقوم على الحذر والغش والتنافس والتناحر. ذلك هو واقع الحكومات العربية ولو لم يكن في بلاد العرب غير الحكومات لكان هذا الواقع مدعاة الى التشاؤم التام. ولكن ثمة الشعب العربي وهو ما لا يمكن ان يتناسى او يهمل عند الحكم على واقع السياسة العربية. فالشعب الذي عرف كيف يفرض ارادته على القيادة العاجزة المشبوهة فيرغمها على متابعة النضال الوطني كلما حاولت ايقافه، يعرف ايضا كيف يفيد من هذه الأدوات الفاسدة ويحد من اضرارها، ريثما ينضج الوعي ويكتمل التنظيم الشعبي فستبدل بها ادوات صالحة تنسجم مع روحه ومصلحته، ويقف وإياها صفا واحدا في وجه كل اجنبي طامع بأرضه، متآمر على حريته. ميشيل عفلق 31 تموز 1946 (1) افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 21 الصادر في 31 تموز 1946.
في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الرابع:)السياسة المعكوسة(53)