منتدى حزب البعث العربي الاشتراكي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى حزب البعث العربي الاشتراكي

مرحبا في الاعضاء
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بشير الغزاوي




المساهمات : 726
تاريخ التسجيل : 11/12/2010

في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) Empty
مُساهمةموضوع: في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79)   في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) Icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 1:21 am

في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) 552657368
في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) 806772312
في سبيل البعث: الجزء الرابع:
الباب الخامس
:
موقفنا السياسي من الشيوعية
موقفنا من الشيوعية(1)(79)

إن فكرة البعث فكرة ايجابية لم يكن الدافع إلى ظهورها مكافحة أفكار أو حركات أخرى، بل الإعلان عن حقيقة والنضال في سبيل نشرها وظفرها. أما اصطدامها الدائم أو العارض بأفكار وحركات وقوى تعترض سبيل انتشارها وتحققها فقد كان وسيلة لتوضيح ذاتها وشق طريقها لا غاية في حد ذاته. ومع هذا فقد كان لا بد لحركتنا منذ التعبير الأول عن فكرتها أن تتخذ موقفا أساسيا محددا من الشيوعية كنظرية معدة للتطبيق وكنظرة إلى الإنسان، وذلك لان الشيوعية أظهرت نفسها كخلاصة للفلسفات التي عرفها البشر وكدين جديد لمستقبل الإنسانية. فتحديد موقفنا منها كان مفروضا علينا من هذه الاعتبارات ومن الأهمية الفكرية والعملية التي احتلتها الشيوعية في العالم الأوربي لا من تماسها المباشر مع واقعنا العربي إذ أن هذا التماس كان سطحيا واضعف من ان يشكل مشكلة جدية وعميقة بالنسبة إلى حياة العرب. إذن فتحديد موقفنا من الشيوعية منذ ذلك الحين كان يعني في الدرجة الأولى اعترافنا وحرصنا على اتصالنا بالعالم وبالعصر ووضع مصير الأمة العربية كجزء لا يتجزأ من هذا العالم و من مصيره كما هو متجسد في مشاكل هذا العصر الفكرية والاجتماعية. ثم إن اتخاذ موقف من الشيوعية هو ضمنا اتخاذ موقف من القيم والأوضاع التي جاءت الشيوعية في أوربا كثورة عليها.
إن مجرد كون حركتنا حركة عربية انقلابية يعني أننا رفضنا نهائيا الأخذ بالنظرية الشيوعية وبحركتها وان خلافنا مع الشيوعية خلاف مبدئي وأساسي وهذا ما سنوضحه في بحث مقبل نفرده لتحديد موقفنا الفكري من الشيوعية، ونكتفي هنا بعرض موقفنا السياسي.. وهو وان كان مستمدا ككل مواقف حزبنا السياسية، من فكرتنا وعقيدتنا، إلا انه يتطلب كثيرا من الواقعية والمرونة ومراعاة الظروف.. لسببين، الأول: هو أن الموقف السياسي يجب ان يعبر عن العقيدة من خلال ظرف واقعي معين وان يتكيف على الشكل الذي يضمن لهذه العقيدة أن تتابع انتشارها وتحققها ضد أهم الأخطار التي تعترض سبيلها مهادنة أو مرجئة الأخطار الأقل بروزا وضغطا. والثاني: أن الشيوعية كحركة وسياسة تطورت وابتعدت كثيرا عن التصميم النظري الذي وضعته الماركسية وذلك يفرض على موقفنا السياسي منها أن يأخذ هذا التطور والتبدل بعين الاعتبار وان يعبر عن مصلحتنا القومية تجاه الواقع الشيوعي في نفس الوقت الذي يعبر فيه موقفنا الفكري -وهو موقف ثابت في أساسه- عن مصلحتنا القومية تجاه النظرية الشيوعية الثابتة.
الأسس التي تحدد موقفنا من الشيوعية
1- إن ظهور حركتنا العربية الانقلابية بأفكارها ومبادئها وسياستها وأسلوبها النضالي الشعبي قد جاء تعبيرا عميقا عن انعدام المبررات الجدية الايجابية لقيام شيوعية وحزب شيوعي في بلاد العرب. ولكن هذه الحقيقة يجب أن تفهم على وجهها الايجابي أي أن مدى تجاوب حركتنا مع حاجات الشعب العربي ومدى النشاط الذي نبذله في نضالنا الاشتراكي هو الذي يقرر، بمقدار ما يحققه من الإمكانيات الانقلابية في وطننا العربي، إلى أي حد يبقى المجال مفسوحاً أمام الشيوعية لكي تفيد من النواحي السلبية في حياتنا القومية وتبقى لها مبررات النمو في بلادنا. وينتج عن ذلك أننا في أساس موقفنا السياسي لا نقبل التحالف مع الشيوعية ولكننا نريد أن نصل إلى ذلك في الظروف والمراحل التي تكون فيها بلادنا معرضة لخطر اشد وهو الإستعمار عن طريق التنافس الايجابي بيننا وبينها لا أن نسلك طريقا مصطنعا يؤدي في النتيجة إلى تقوية مبررات انتشارها إذا نحن انشغلنا عن مقاومة الإستعمار بمقاومتها ورفضنا الالتقاء والتعايش المؤقت معها في الظروف التي تكون مصلحتها هي أيضا في دعم النضال العربي ضد الإستعمار.
2- إن موقف حزبنا هو موقف قومي مستقل يستلهم دوما مصلحة الأمة العربية في حاضرها ومستقبلها وهو يختلف كل الاختلاف عن موقف الأحزاب والفئات التي تعمل أما بوحي عقائد غير العقيدة القومية العربية -كالأحزاب الإقليمية والطائفية- وأما بوحي المصالح الخاصة لأتباعها وطبقتها وأحيانا بوحي الإستعمار نفسه إذ أن من هذه الأحزاب والفئات من يعادي الشيوعية دون أية مراعاة للظرف ولتفاوت الأخطار المهددة للوطن وهذا ما يشغل الشعب عن مقاومة الأخطار البالغة والمداهمة ويشتت تفكيره ونضاله ويسهل في بعض الأحيان مهمة الإستعمار في تثبيت أوضاعه وتنفيذ مآربه. أما موقفنا القومي المستقل فهو موقف مستقل عن الشيوعية مخالف لها ومختلف عنها أساسيا ولكنه ليس بالضرورة وفي كل حين معاديا لسياستها، طالما أن هذه السياسة لا تشكل دوما اكبر خطر على مصلحتنا القومية وطالما أنها هي أيضا ليست بالضرورة وفي كل حين مناقضة ومناوئة لمصلحتنا القومية وهذا ما يميز موقفنا عن الموقف السلبي الذي لا يستمد مبررات وجوده إلا من مكافحة الشيوعية وهو غالبا موقف الرجعيين والإستعماريين وأجراء الإستعمار.
3- و هذا ما يقودنا إلى تفريق أساسي آخر.. فسياسة الحزب الشيوعي في بلادنا تنطلق من السياسة الخارجية المستوحاة من السياسة الشيوعية العالمية ومن ظروف الاتحاد السوفيتي وصراعه مع المعسكر الغربي. وما معالجتها بالتالي للسياسة العربية عامة وللسياسة الداخلية لكل قطر عربي إلا نتيجة وانعكاسا لسياستها الخارجية. أما سياسة حزبنا فتنطلق من السياسة العربية الداخلية لنقرر على ضوئها خطوط سياستها الخارجية وبالتالي موقفها من الشيوعية والاتحاد السوفيتي.
4- إن سياسة حزبنا مستمدة من فكرته الانقلابية العربية التي تقوم على أساس البعث العربي أي على تحقيق الانقلاب والانبعاث من الداخل وعلى تحرير البلاد العربية وتوحيدها وعلي تجديد المجتمع العربي والنهوض به أولا، بينما تهمل الشيوعية كل هذه الأشياء أو تتهاون فيها وقد تجيز لنفسها أحياناً عرقلة هذه الأهداف لكي تلقي بصورة متعسفة مصطنعة بكل قضايانا القومية إلى الصعيد الخارجي أو الدولي وعلى الشكل الملائم لمصلحة السياسة السوفيتية.
5- ومن أسس موقفنا السياسي أن نميز تمييزا واضحا بين موقفنا من الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية وبين موقفنا من الاتحاد السوفيتي. فبالرغم من أن الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية -كما هي في سائر بلدان العالم- تعمل لمصلحة السياسة السوفيتية وتطرح قضايانا القومية من هذه الزاوية فحسب إلا أنها تمثل في نظر شعبنا وبالنسبة إلى قضيته القومية شيئا آخر لا ينحصر في خدمة السياسة السوفيتية والترويج لها فهي مؤسسة قائمة في داخل بنياننا القومي وتأخذ عناصرها من أفراد شعبنا وتستقطع قسما من شبابنا المثقف وتتكلم لغتنا وتتداخل في شتى مناحي حياتنا عن طريق صحفها وكتاباتها وعن طريق الجمعيات والنقابات التي تتغلغل فيها. لذلك فهي تنافس الحركة القومية العربية من الداخل وفي صميم التكوين الفكري والتنظيمي للشعب او لبعض فئاته على الأقل، فصراعنا معها لا يقتصر على السياسة، و لذلك لا يمكن لهذا الصراع أن يتوقف حتى عندما تلتقي سياستنا بسياستها بل نكاد نقول أن خطر الأحزاب الشيوعية يزداد حين تقترب سياستها -وهي دوما خارجية- من المصلحة العربية. لان هذا الاقتراب والالتقاء يخلقان التباسا خطرا في الأوساط السطحية الفهم والغير مزودة بتوجيه قومي متين إذ تتسرب إلى هذه الأوساط برفقة الشعارات السياسية الخارجية التي تلتقي مع شعاراتنا السياسية وبحجتها الأفكار والشعارات الشيوعية العقائدية التي هي أعمق وأبعد مدى من الالتقاء السياسي العارض وهذا ما يرتب على حركتنا واجب الحذر والحيطة والجهد المتواصل للتوضيح ولمنع أي التباس بين هويتنا وهوية الشيوعية.
في حين أن الاتحاد السوفيتي، بالرغم من صفته كدولة شيوعية ومتزعمة وموجهة للأحزاب الشيوعية في العالم ومسيطرة عليها، يبقى دولة تعمل بسياسة واقعية تراعى فيها مصلحتها وبقاءها والاحتفاظ بنفوذها وزيادته ضمن الظروف العالمية وتصارع القوى فيها، وان هذه المصلحة الواقعية للاتحاد السوفيتي لا تنصب في الدرجة الأولى ولا تقتصر على دعم الحزب الشيوعي في بلد ما بل هي أوسع وأكثر مرونة وتحرص قبل كل شيء على الإفادة من وضع البلد بالنسبة إلى القوى والظروف العالمية وقد يصل بها الأمر إلى التضحية مؤقتا بالحزب الشيوعي -كما يجري الان مع مصر مثلا- لتكسب صداقة هذا البلد وتتبادل المنفعة معه.
وفي ظروف هذه المرحلة التي يجتازها العرب في نضالهم للتحرر من الإستعمار الغربي يبدو من الطبيعي أن تلتقي مصلحتهم في اكثر من نقطة مع مصلحة السياسة السوفيتية. ومادامت هذه الظروف باقية فيبدو وعلى الأقل انه ليس من مصلحة العرب معاداة الاتحاد السوفيتي.
ومن اجل ذلك كله كان وجود الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية يحمل في طياته إلى جانب الإضرار المعروفة ضررا آخر مباشرا هو تشويه نظرة الشعب العربي إلى الروابط المصلحية التي يمكن أن تكون ويلتقي بها مع الاتحاد السوفيتي في سياسته الخارجية. إذ لاشك أن النظرة إلى هذه الروابط كان يمكن أن تكون أكثر تحررا وصفاء وجرأة لولا ما يلتبس به التقارب السياسي من الاتحاد السوفيتي من تهديد الكيان القومي بانتشار الشيوعية وهكذا نصل إلى هذه النتيجة.. وهي انه بمقدار ما ننشط ونحول بنشاطنا الايجابي دون انتشار الحزب الشيوعي وبمقدار ما تضيق وتتقلص رقعة هذا الحزب أمام توسع حركتنا بمقدار ما يسهل تكوين سياسة عربية مستقلة تستطيع الإفادة من وجود الاتحاد السوفيتي في وجه الإستعمار الغربي والتفاهم معه على كل ما يخدم القضايا العربية.
6- إن النهج المبدئي لحزبنا يقوم على خلق وعي سياسي عند جماهير الشعب لتتلمس مباشرة قضايانا وهذا ما يتطلب الصدق والوضوح والتجاوب الدائم مع حاجاته ومطالبيه ويجعلنا نصر دائما على الابتعاد في سياستنا عن كل تهويش أو مواربة وتغطية وعلى عدم إشغال الجمهور بقضايا بعيدة عنه وعدم صرفه عن النضال الداخلي في سبيل التحرر والتقدم لإشغاله بقضايا كاذبة أو قضايا لم يحن بعد وقت طرحها كما تفعل الشيوعية في طرحها لشعاراتها العامة في السلام والتعايش السلمي والانفراج الدولي ونزع السلاح، وفي سياسة البرقيات والعرائض لهذه الأغراض فماذا تعني هذه الشعارات وهذه القضايا بالنسبة لجمهور شعبنا وهو في كفاحه ضد الصهيونية وضد الاحتلال والتجزئة وضد نفوذ الإستعمار السياسي والاقتصادي في بلاد العرب وضد الرجعية والتأخر؟
إن هذا لا يعني أننا ندعو لسياسة عزلة وانغلاق وان قضايا السياسة العالمية لا تعنينا فالوعي القومي العربي الحديث مطالب بان ينفتح على المشاكل العالمية ويدخلها في حسابه ولكن بمقدار الضروري النافع وعلى أساس مصلحة الأمة العربية مع مراعاة ظروف مرحلتها الحاضرة التي تستوجب التركيز على خلق الشخصية العربية وتقويتها. وهذا ما يدعونا إلى مقاومة محاولة الشيوعيين لإغراق قضيتنا القومية في بحر من المشاكل العالمية الواسعة والحذر من منطقهم الخاص المتعسف الذي يعين أهمية الحوادث العالمية لا بالنسبة إلى مصلحة العرب ولا حتى بالنسبة إلى الأهمية الموضوعية لهذه الحوادث بل بالنسبة إلى مصلحة الحركة الشيوعية.
و من هذه الفوارق المبدئية بيننا وبين الشيوعية ينتج أيضا اختلاف أساسي في الأسلوب السياسي الذي نتبعه في تنظيم نضال الشعب وفي طرح شعارات هذا النضال. واختلاف عن الشيوعية في المنطق والأسلوب الذي نعالج به قضايانا في السياسة الداخلية والعربية والدولية.
بين منطق حركتنا وسياسات الحزب الشيوعي
إن الفرق بين حركتا وبين الشيوعية هو الفرق بين ما هو وطني وما هو غريب، بين ما هو طبيعي وما هو مصطنع، خاصة إذا عرفا أن ظروف البلاد العربية وأوضاعها ونفسيتها في هذه المرحلة التاريخية هي جد مختلفة وبعيدة عن ظروف البلدان الأوربية المهيأة اقتصادياً وسياسياً وحضارياً لان تكون الشيوعية فيها أكثر من حركة غريبة توجهها سياسة دولة أجنبية. وهذا يعني أن الشيوعية في كثير من بلدان أوروبا استطاعت إلى حد كبير أن تستوطن وتكسب حق المواطنة. وما ذلك إلا لأن البلاد الأوروبية قد بلغت في هذا العصر، ولو بنسب متفاوتة حداً استوت فيه المشاكل الداخلية والمشاكل الخارجية حتى أننا نستطيع دون كبير تعسف في الأحكام أن نعتبر الشيوعية مظهرا ونتيجة لتطور أوروبا أكثر منها سببا ودافعا لهذا التطور، وهذا ما لا ينطبق على حالتنا نحن العرب، فبينما تتجاوب الشعارات الشيوعية رغم اصطناعها الظاهري وتعصبية نظرتها مع حاجات واقعية عند شعوب الغرب -كقضايا السلم العالمي مثلا والتعايش السلمي وتحريم السلاح الذري- تظهر هذه الشعارات في الحياة العربية الحاضرة كأنها هابطة من عالم آخر ومفروضة من خارج واقعنا وحاجاتنا لا لأنها عديمة الصلة أصلاً بهذا الواقع بل لأنها لا تعبر عن أهم شيء فيه وعن أشد حاجاته ضغطا وإلحاحاً.
فحركتنا رغم أنها وعت منذ بدئها ظروف العصر وخاصة ظروف أوروبا -البلاد الراقية المسيطرة- ظلت حركة عربية منبعثة من صميم الواقع العربي ومتصلة بأعمق الروابط مع شعبنا وماضيه ومشاكله الحاضرة واستعداداته لخلق مستقبل له. فنحن عندما قلنا أن حركتنا وطنية لم نقل أن الحركة الشيوعية لا وطنية ولكننا قلنا أنها غريبة أي غير متجاوبة مع صميم حاجاتنا فقد تقف الشيوعية من قضايانا في بعض الأحيان مواقف وطنية ولكن هذا لا ينفي عنها غربتها ولا يكون أكثر من التقاء عارض في المصلحة لا في النظرة والشعور، لذلك فهي في أحيان أخرى تتراجع عن هذه المواقف أو تناقضها بسهولة لا يقدر عليها ولا يعقل أن يقدم عليها من ربط مصيره بمصير شعبه واستوحى أفكاره وخططه من حاجات الشعب ومصلحته التي لا يمكن أن تتبدل أو تتناقض بين حين وآخر.
و تبعا لهذا الفارق المميز نفسه نستطيع أن نفهم كيف أن حركتنا المعتمدة على جذورها القومية والواثقة من تجاوبها مع حاجات الشعب العميقة تظهر من الجرأة في طرح المشاكل ومعالجتها -ولو أنها في بعض الأحيان غير متكافئة مع صعوبات هذه المشاكل- وكيف أن الشيوعية الجريئة في تقلباتها السياسية تتردد كثيرا في اقتحام ميادين نضالية لا تعطي مردودا سياسيا عاجلا ويتطلب اقتحامها ثقة في الشعب واعتمادا على قواه الكامنة وتضحية بالحاضر في سبيل خلق وعي عميق أو تبديل شيء أساسي في مستقبل هذا الشعب.
في السياسة الداخلية:
منذ خمسة عشر عاما، ومنذ تأسس حزبنا بفكرته العربية الانقلابية الاشتراكية، ركز نضاله الأساسي في سوريا على مقاومة الإستعمار الفرنسي دون أن ينسى ضعف القيادة الوطنية المتزعمة للنضال الشعبي والمستغلة له. فكان في نفس الوقت الذي يدعو الشعب فيه إلى مقاومة المستعمر بكل قواه وبكل الوسائل يحذره من الزعماء المستغلين ومن مساوماتهم وتراجعهم ويربط بين سياستهم الانتهازية الرخوة المترددة وبين عقليتهم كطبقة لا تحيا حياة الشعب ولا تشعر شعوره ولا تثق به ولا تستطيع إدراك المدى الذي يمكن أن تبلغه قدرته النضالية الهائلة، كما يربط بين التناقض القائم بين ادعائهم مقاومة الإستعمار من اجل إجلائه التام وبين حرصهم على تلك المصالح الخاصة وما يقود إليه من لين وتراجع كلما هددهم الإستعمار في صميم مصالحهم علاوة على أن تشبثهم بهذه المصالح كان بصورة غير مباشرة يضعف الوسائل النضالية عند الشعب نتيجة إفقارهم واستعبادهم له، وما أن خطت القضية الوطنية خطوة إلى الأمام سنة 1943 عندما سلم الإستعمار الفرنسي لسوريا بنوع من الإستقلال مشوب بالنقص والأخطار وقام في البلاد من جديد حكم وطني دستوري حتى وجد حزبنا من واجبه أن يزداد جرأة في فضح مساوئ الفئة المتزعمة التي وصلت إلى الحكم واستمرت في عقليتها وأساليبها القديمة المعروفة باحتقارها للشعب وخوفها منه وترتيب سياستها ومساوماتها مع الأجنبي في معزل عنه وبالتالي باضطرارها لخرق الدستور وتزييف النظام البرلماني وقمع الحريات وإفقاد البلاد القوة الوحيدة التي تستطيع أن تقف في وجه ألاعيب المستعمر وغدره وبطشه ألا وهي قوة الشعب وهكذا اخذ تركيز الحزب ومقاومته يتوجهان إلى هذه الفئة الحاكمة بنفس الدرجة التي كانا يتوجهان فيها إلى الإستعمار دون خشية من تصديع لتلك الوحدة الكاذبة المزعومة للصف الوطني، ودون خوف من أن يستغل الإستعمار نضالنا ضد الفئة الحاكمة طالما أن هذا النضال اقتصر إذ ذاك على التحذير والضغط في سبيل التشدد في مطالبنا وحقوقنا القومية وعدم التساهل والتفريط بشيء منها خاصة وان الحزب كان يقف من الفئات والأشخاص المتعاونين مع الإستعمار موقفا أشد واصلب من موقفه من الفئة الحاكمة. وكان يرفض أي التقاء أو تعاون مع هذه الفئات ومع المعارضين المدفوعين بالأغراض والمصالح الخاصة. وبهذا الأسلوب المعتمد من روح الشعب وحاجاته والواثق بقدرة الشعب على الاستمرار في النضال وعلى خلق قيادة جديدة لهذا النضال تخرج من صميمه وتكون خالصة من شوائب القيادة القديمة.. استطاع الحزب أن يفتح أمام الشعب أبواب المستقبل بارتفاعه بمستوى النضال إلى الصعيد الشعبي الانقلابي.. إذ طرح قضية سوريا كجزء لا يتجزأ من تحرر الشعب السياسي والاقتصادي، ومن توحيد نضاله في جميع أقطاره ومن العمل على توحيد هذه الأقطار المجزأة. وبعد جلاء الفرنسيين عن سوريا ولبنان ازداد نضال الحزب شدة وأتساعا في سبيل إشراك جماهير الشعب في الحياة السياسية والقومية.. وضد كل محاولة من الفئة الحاكمة لعرقلة استلام الشعب لقضيته، فكانت مقاومتنا المعروفة للمراسيم الاشتراعية الخانقة للحريات حتى تراجعت الفئة الحاكمة عنها.. وكان نضالنا المشهود في سبيل جعل الانتخابات على درجة واحدة ودفاعنا المتواصل عن حرمة الدستور وسلامة الحياة البرلمانية والديمقراطية... كل ذلك لإيماننا العميق بأهمية هذه الخطوات في طريق تكامل وعي الشعب وشعوره بشخصيته القومية ومسؤوليته التاريخية، ومن إعداده للانطلاق نحو مهمات ابعد وأصعب تتناول تبديل أسس النظام الاجتماعي الفاسد وما يرافق ذلك أو يليه من تبديل عميق لأسس حياة الفرد والمجتمع في نواحيها الفكرية والاقتصادية... وعلى هذا المنوال يمكن فهم المراحل التالية لنضال الحزب وكيف انه بعد أن سجل نصرا للحريات العامة اخذ يركز على الناحية الاشتراكية دون تناس أو إهمال لمقاومة الإستعمار وللعمل في سبيل الوحدة العربية. وكيف أن الحزب قاوم بمفرده تقريبا الدكتاتورية العسكرية.. لا لأنها دكتاتورية فحسب بل لانتحالها الكثير من شعاراته القومية التقدمية، ولأنها بهذا التضليل كانت تبدد أصالة الانقلابية العربية التي يشترط في تحقيقها أن يحملها الشعب ويحميها بنضاله الحر الواعي وبمشاركته العميقة لا أن تفرض عليه من فوق وبقوة السلاح مع العلم بأن زيف تقدمية الانقلابات العسكرية كان مفضوحاً إذ قامت كلها بقصد طرد حركتنا من الساحة وتطمين المصالح الرجعية والإستعمارية.
أما الحزب الشيوعي فكانت مواقفه تبعا لمنطقه الذي ينطلق من السياسة الخارجية، مواقف معرضة لتقلبات كثيرة ناتجة عن تقلبات السياسة السوفيتية الخارجية.. فبعد أن بدأ بداية عقائدية واضحة ادخل تعديلا كبيرا على سياسته منذ سنة 1936 أي السنة التي تحولت فيها سياسة الكومنترن في العالم واتجهت نحو الاعتدال والتعاون مع الحركات الوطنية والأحزاب التقدمية. وأوحت لتلك الأحزاب بإقامة الجبهات الوطنية والدعوة لها. ومنذ أصبح الحزب الشيوعي السوري اللبناني مرتبطا بالكومنترن عن طريق الحزب الشيوعي الفرنسي.. كانت سياسة الشيوعيين في بلادنا سياسة تعاون ايجابي مع الفئات الحاكمة الرجعية، وانصرفت عن النضال ضد العدو المباشر، وسكتت عن مقاومة الأجنبي المحتل لإشغال الشعب بقضايا بعيدة عنه، كقضية فرانكو مثلا والحرب الأهلية في اسبانيا. وعلى اثر إعلان الحرب العالمية الثانية وكنتيجة لتفاهم روسيا مع ألمانيا النازية عاد الحزب الشيوعي في سوريا إلى عدائه الصريح للاستعمار الفرنسي والمعسكر الغربي عامة وظل على هذه الحال حتى اضطرت روسيا إلى تبديل موقفها بعد أن هاجمتها الجيوش الألمانية فالتقت مع الحلفاء في حربهم ضد النازية، وبالتالي عاد الحزب الشيوعي إلى مسايرة الإستعمار الفرنسي وحلفائه.. وأخذ يشكل الجمعيات لمكافحة الفاشية ويجمع فيها الأسماء البارزة من السياسيين المأجورين للاستعمار والإقطاعيين وكبار موظفي الدولة إلى جانب الكتاب والصحفيين، وذابت قضية البلاد الأساسية في الإستقلال والحرية كما تضاءلت قضية الشعب بعماله وفلاحيه وظل هذا شأن الشيوعيين بعد قيام العهد الوطني للمرة الثانية سنة (1943) فكانوا على صلات حسنة مع حكومات ذلك العهد ولم يرفعوا صوتهم لا ضد الضغط على حريات الشعب وخرق الدستور ولا ضد سياسة المساومة والتخاذل أمام الفرنسيين ولا ضد تصريحات الحكومة الأمريكية المؤيدة للصهيونية في فلسطين. وعند نهاية الحرب وانتصارات الحلفاء كان الشيوعيون يحشدون أتباعهم في مظاهرات يحملون فيها صورة الجنرال ديغول إلى جانب صورة ستالين. ولم يحركوا ساكنا أو يساهموا في مجهود البلاد للتخلص من الاحتلال الفرنسي لان سياستهم كانت متأثرة بالخوف من امتداد النفوذ البريطاني إلى سوريا في حالة جلاء الفرنسيين عنها. وكل هذا ينم عن ضعف ارتباطهم وضعف ثقتهم بالشعب. وبعد الجلاء واستفحال مفاسد الحكم الوطني وتزايد نقمة الشعب على الاستغلال والطغيان لم يكن الشيوعيون أقوى المعبرين عن مشاعر الشعب ومصلحته بل كانوا أحيانا ينقذون المظاهر برفع صوتهم في آخر المعركة وبعد أن يكون حزبنا وجماهير الشعب قد أدوا ضريبة النضال سواء بدفع خطر القوانين الجائرة أو بتحقيق قوانين تقدمية.
ولا حاجة لتكرار القول بأن تأييدهم الضمني لهذه الحكومات الإقطاعية أو سكوتهم عنها وتراخيهم في مقاومتها لم يكن معبرا عن موافقتهم على سياستها الداخلية الرجعية وإنما كان نتيجة رضائهم عن سياستها الخارجية التي كان الشيوعيون يرون فيها حداً أدنى من الحرص على الإستقلال بمعناه الإقليمي والابتعاد النسبي عن النفوذ البريطاني والأمريكي.
وفي عهود الدكتاتورية العسكرية لم تكن تعنيهم حرية الشعب المخنوقة وما كان يصيبه من ظلم بقدر ما كانوا يتخوفون أن تؤدي سياسة العسكريين إلى تحالف مع دول المعسكر الغربي في أحلاف عسكرية يقصد منها إكمال تطويق الاتحاد السوفييتي، لذلك خفت مقاومتهم عندما أطمأنوا إلى عدم انجرار الدكتاتورية العسكرية زمن الشيشكلي وراء سياسة الأحلاف.. مع العلم أن وعي الشعب ونضاله هما اللذان جعلا من المستحيل على الشيشكلي أن يسير في سياسة الأحلاف.
في السياسة العربية:
لقد سبق وذكرنا في معرض التمييز بين سياستنا والسياسة الشيوعية أننا ننطلق من السياسة الداخلية القومية بينما ينطلق الشيوعيون على العكس من السياسة الخارجية.. ولكن هذا يحتاج إلى توضيح ما نعنيه بالسياسة الداخلية في هذا المعرض.. فهي ليست الشؤون الخاصة بكل قطر عربي على حدة، بل الشؤون المتصلة اتصالا وثيقا بحياة الشعب العربي كشعب واحد في مختلف أقطاره، يجتاز مرحلة انبعاث قومي. وبتعبير آخر فان نقطة انطلاقنا هي النقطة المشتركة (القومية) بين جميع العرب التي ننظر على ضوئها إلى تفصيلات الحوادث والمشاكل الداخلية بالنسبة إلى كل قطر لتنتظم هذه الحوادث والمشاكل في منطق معين له اتجاه واحد وأهداف أساسية واحدة. وفي هذا نختلف كل الاختلاف لا عن الشيوعيين فحسب بل عن جميع الأحزاب العربية والفئات الحاكمة التي تعتبر المصلحة العربية المشتركة مقتصرة على عدد من القضايا العليا التي تلتقي عليها جميع الأقطار العربية أو أكثرها والتي هي من نوع القضايا التي تجمع بين بلدان عدد من الشعوب المختلفة والعائشة في منطقة واحدة من العالم والمهددة بخطر واحد، والمشتركة -رغم اختلافها- في روابط حضارية واقتصادية ودفاعية وغير ذلك دون أن يكون ثمة أية علاقة بين الأوضاع والمشاكل الداخلية لكل شعب منها وبين هذه الروابط المشتركة، مما يؤدي عمليا إلى تضارب واصطدام بين النهج المشترك والنهج الخاص بكل قطر.. وبالتالي إلى تعذر أي توحيد فعلي مهما يكن بسيطا والى تخبط لا نهاية له في التناقض بين الوسائل والأهداف والأعمال والادعاءات. ذلك لان قيام هذا الاشتراك في المصلحة بين شعوب تعرف وتعترف صراحة أنها متمايزة مختلفة وتريد أن تجد نقاط التقاء فوق هذا التمايز والاختلاف هو أمر طبيعي وايجابي وممكن لا يشوشه تناقض ولا يعترضه تضارب لان هذا الاشتراك أريد له منذ البدء وصراحة أن يكون محدودا وسطحيا وان لا يمس تكوين هذه الشعوب في الأعماق. في حين أن اتباع نفس المنطق مع أجزاء شعب واحد يعيش مشاكل واحدة وينزع إلى أهداف واحدة ومصير واحد يؤدي إلى عكس النتيجة لان محاولة التقريب والتوحيد بينه على أساس المنطق السائد لدى الأحزاب والفئات الحاكمة العربية إنما هي في الواقع محاولة لخلق التباعد وتقوية عناصر الاختلاف والتباين وإعطاء مشروعية وقدسية لما هو طارئ دخيل على حياة الأمة وجعله هو الأصل بينما تصبح الوحدة الأصيلة للأمة أمراً سطحيا يدخل في نطاق خطط السياسيين ومفاوضاتهم ومساوماتهم.
إذن فقصدنا من السياسة الداخلية هو المعالجة الحية لمشاكل الشعب العربي على أساس وحدة قوميته ومصيره. فقضية تحرر سوريا من الإستعمار الفرنسي وتحرر الشعب السياسي في صراعه من أجل الدستور والحريات العامة وقضية تحرر الفلاحين فيها من سيطرة الإقطاعيين وتجربة الحكم العسكري وفضح ما فيها من تزييف للحركة الانقلابية الشعبية.. كل هذه القضايا لم يثرها حزبنا بهذا التسلسل وهذا العمق لأنها قضايا خاصة بسوريا بل لاعتبارها جزءا ونموذجا من قضايا الشعب العربي كله ولاعتبار تأثيرها وتفاعلها في القضية القومية الكبرى
(.يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بشير الغزاوي




المساهمات : 726
تاريخ التسجيل : 11/12/2010

في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) Empty
مُساهمةموضوع: رد: في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79)   في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) Icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 1:23 am

في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) 552657368
في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) 806772312
في سبيل البعث: الجزء الرابع
الباب الخامس:

موقفنا السياسي من الشيوعية
موقفنا من الشيوعية(1)(79)

وبالاستناد إلى كل ما تقدم يسهل توضيح موقفنا من السياسة العربية وفهمنا لهذه السياسة بعد أن رفضنا المفهوم السطحي الزائف للأحزاب والفئات الحاكمة العربية نستطيع القول.. أن السياسة العربية هي التقاء وتضافر وتفاعل مستويين من النضال، مستوى النضال المنصب على المشاكل الشعبية التي تمس حياة الشعب العربي في كل قطر حسب أوضاع هذا القطر من حيث علاقته بالإستعمار والفئات الحاكمة والطبقة المستغلة والمشاكل الاجتماعية والفكرية الراهنة.. كل هذا مطروحا منذ البدء على أساس النظرة العربية، ومستوى النضال المنصب على الوحدة القومية كإرادة وخلق وخطة. وبتعبير آخر إن إيقاظ القوى النضالية في الشعب العربي في كل قطر بمفرده وحسب ظروفه وتربية هذه القوى وتنميتها يجب أن يستغل ويحول باستمرار إلى قوة شعبية نضالية تضغط من اجل توحيد أجزاء الوطن العربي مراعية ملاءمة الظروف السياسية العربية والدولية لتجسيد هدف الوحدة في خطوات إنشائية حيث يكون ذلك ممكنا، وفي تضامن قومي وسياسي ونضالي بالنسبة إلى الأجزاء التي لم تتهيأ لها بعد ظروف التوحيد الإنشائي. ولقد لحق بالقضية العربية أضرار جسيمة من جراء الفصل بين هذين المستويين من النضال اللذين يجب أن يظلا مترافقين متفاعلين متحدين. فثمة الذين يأخذون الوحدة العربية مجردة من لحمها ودمها كقشرة بلا لب وعنوان بلا محتوى عندما يفصلون جهلا وتجاهلا بين وحدة العرب القومية وبين حاجات الشعب العربي الحياتية، ثم يظهرون دهشتهم بعد ذلك لتعثر سير الوحدة وعقم محاولاتها متناسين أن هدفا ضخما وصعب المنال كهدف الوحدة لا بد له لكي يتحقق من قوة ثورية نضالية لا تتوافر إلا في جماهير الشعب الثورية المناضلة، وإلا إذا اندمج هذا الهدف بمطالب الشعب الاقتصادية والتحررية وارتكز على دعامتي الاشتراكية والحرية. وثمة أيضا الذين يناضلون ضمن القطر الواحد على أساس تجسيد حاجات الشعب في هذا القطر الاقتصادية والتحررية ويقفون عند هذا الحد، متوهمين أن ترابط أجزاء هذا النضال وتجمعها خلال الأقطار العربية المختلفة يتمان بصورة آلية ودون خطة منسقة لأجزاء هذا النضال ودون دمج هذا النضال في جميع خطواته وتفصيلاته دمجا عميقا بنضال الوحدة.
إن نظرتنا العربية لا تقتصر على وجوب طرح المشاكل القطرية الداخلية بمنطق معين هو منطق وحدة الأمة العربية ووحدة مصيرها، بل تؤدي أيضا إلى إغفال أو تأجيل او تضحية لبعض هذه المشاكل القطرية لكي نقدم عليها ما هو أهم وأوثق صلة بمصلحة العرب وما يمكن أن يحقق نفعا أساسيا للعرب كأمة واحدة.
وتتوضح نظرتنا هذه باستعراض سريع لبعض مواقف حزبنا... ففي بداية تاريخ حزبنا في مرحلته السرية، لم نكد نخرج من أوائل عام 1941 من معركة عنيفة ضد الإستعمار الفرنسي وحكومة المديرين في سوريا حتى حدثت ثورة العراق على الإستعمار البريطاني فتجند الحزب لدعم هذه الثورة. وكان توجيهه مركزا على موضوع الوحدة العربية وأثر العراق فيها إذا تمكن بمناصرة الشعب العربي في الأقطار الأخرى من إن يحقق استقلاله التام ليعمل بدوره على تحرير الأقطار الأخرى. ومنذ قيام الحكم الوطني بسوريا سنة 1943 كان نضال الحزب يطرح دوما قضايا العرب القومية ويطرح قضايا سوريا على الصعيد العربي ويضغط على الحكومات فيها لتحريرها من النظرة الإقليمية. وهكذا أعلن الحزب مخاوفه وارتيابه من الجامعة العربية منذ اليوم الأول لتأسيسها وفضح الانحراف الأساسي الذي تضمنه ميثاقها ونقطة انطلاقه. وطالب الحزب بجامعة شعبية تضم الأحزاب العربية الأكثر اتصالا بجماهير الشعب كخطوة نحو توحيد النضال العربي الشعبي. وفي سنة 1945 عندما أثارت بعض الحكومات العربية فكرة مشروعات توحيدية او اتحادية، كمشروع سوريا الكبرى ومشروع اتحاد سوريا والعراق.. قام الحزب بفضح المصالح الإقليمية والشخصية التي انطوت عليها مقاومة الفئة الحاكمة في سوريا لتلك المشروعات كما فضح الأغراض المبيتة للاستعمار من وراء طرح قضية الوحدة العربية على ذلك الشكل المنحرف لتشويه فكرة الوحدة من أساسها. ولكن الحزب لم يقف عند هذا الحد السلبي بل بيّن الشروط السليمة والواقعية التي يمكن ان تتوافر لتحقيق خطوات في طريق الوحدة.
أما قضية فلسطين فكانت معالجة الحزب لها واضحة جلية إذ بين عجز الحكومات العربية عن الصمود في وجه الصهيونية ما دامت هذه الحكومات كلها، ولو بنسب متفاوتة، مسلمة قيادها للدول الإستعمارية تسير بتوجيهها وتتحاشى مخالفتها وإغضابها، وطالما أنها من جهة أخرى حكومات رجعية تمثل مصالح الطبقة المستغلة للشعب، فلا تستطيع الاطمئنان إلى الشعب وفسح مجال النضال القومي أمامه.. وفضح حزبنا بصراحة تامة أسلوب الحكومات والزعماء التقليديين في تزييف قضية فلسطين وتغليفها بحجب كثيفة من الدعايات العاطفية والسطحية المضللة التي من شانها إن تبلبل وعي الشعب وتشوش حماسته واندفاعه وتعطل بالتالي معظم إمكانياته النضالية. وربط الحزب قضية فلسطين ربطا وثيقا بالقضية القومية الأساسية أي بتكوين المجتمع العربي وبوجود الإستعمار والتجزئة والاستغلال الطبقي وبين أن حلها لا يكون إلا بجزء من الحل القومي العام، ولكنه لم يستنكف عن دخول النضال العاجل والمسلح ودعا الشعب إلى المساهمة فيه على أوسع نطاق رغم العراقيل التي كانت الحكومات تضعها في سبيله. وقصده من ذلك أن هذا النضال الشعبي علاوة على كونه تعبيرا عن حيوية الأمة وشعورها بوحدتها وتحسسها بحقوقها ومصلحتها فانه يساعد على فضح تآمر الفئات الحاكمة ويعجل في انهيارها واستلام الشعب لقضيته.
اما بالنسبة للمغرب العربي فقد حرص حزبنا منذ تأسيسه إلى اليوم في جميع مواقفه السياسية على تجسيد إيمانه بوحدة الأمة العربية وخاصة بكون المغرب العربي جزءا لا يتجزأ من وطننا الواحد، ذلك لان الحزب كان يعرف مدى الأثر السلبي الذي أحدثه الإستعمار والتجزئة والانشغال بالمصالح الإقليمية الضيقة والآلية حتى ضعفت الرابطة بين شطري الوطن الواحد فكان الحزب لا يضيع مناسبة إلا استخدمها للتذكير بقضية المغرب وإدخالها في صميم النضال الشعبي. وكان الحزب في بياناته ومواقفه النضالية يحمل على الحكومات العربية والجامعة العربية لإهمالها قضية المغرب وتقاعسها في دعمها دوليا وإمداد نضال الشعب العربي في المغرب بالمساعدات الجدية، وكان يحمل عليها بصورة خاصة لجعلها قضية المغرب في بعض الأحيان موضوع مساومة مع فرنسا. وكان هذا الموقف جليا في عهد دكتاتورية الشيشكلي عندما كان هذا الأخير يساوم فرنسا لتزويد الجيش ببعض الأسلحة على حساب حرية شعبنا المكافح إذ ذاك كفاحا دمويا في تونس ومراكش. كما ان الحزب إلى جانب محاولاته المستمرة لإدخال قضية المغرب في صلب النضال العربي الشعبي في الشرق قد وقف دوما من نضال المغرب موقف الداعم للحركات الشعبية الثورية الصلبة ضد تخاذل السياسيين المعتدلين وضد الانتهازيين الذين يطعنون نضال الشعب بالمفاوضات والمساومات مع الإستعمار وبتجزئة نضال المغرب لنيل مكاسب سطحية لقطر على حساب الأقطار الأخرى.
وأخيرا لا بد من كلمة موجزة عن موقف حزبنا من سياسة الحكومات العربية، بعضها حيال بعض، وحيال الغرب، من بعد كارثة فلسطين... لقد أحدثت هذه الكارثة وقيام دولة إسرائيل أثرا مختلفا في كل من الشعب العربي ومن الطبقة الحاكمة المستغلة. فخطر إسرائيل قد نمى روح الثورة التحررية والاجتماعية بشكل عام وشعور الشعب العفوي وحاجته الطبيعية إلى الوحدة القومية بشكل خاص بينما دفع الطبقة الحاكمة (وهي انفصالية بحكم وجودها ومصالحها) إلى استسلام متزايد للاستعمار الغربي تتقوى به ضد توسع اسرائيل المحتمل وضد الثورة الشعبية على السواء. وكان الإستعمار يدرك هذه النفسية الجديدة ويسعي لاستغلالها بتقديم مشروعاته الدفاعية للحكومات العربية ليطمئنها بهذه المشروعات على بقائها أمام خطر التوسع الصهيوني والثورة الداخلية. ولكن وعي الشعب العربي قد فضح هذه الخطط إذ أن الشعب لم يكن يجهل أن الإستعمار الغربي هو المستفيد الأول من تشجيع الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل، وبالتالي فلم يكن الشعب يرى سبيلا للتخلص من الصهيونية وإسرائيل إلا بالتخلص من الإستعمار اولا. وهكذا فقد عجلت كارثة فلسطين في فضح الطبقة الحاكمة المستغلة وفضح تآمرها مع الإستعمار ونتج عن ذلك تطور نسبي للحكم في بعض الأقطار المعرضة بصورة مباشرة لخطر إسرائيل كمصر وسوريا حيث اتجه الحكم نحو التقدمية في الداخل والتحرر التدريجي من تبعية المعسكر الغربي. أما في العراق حيث خطر إسرائيل اقل تهديدا مباشرا، فقد حاولت الفئة الحاكمة المستسلمة للاستعمار أن تستر رجعيتها الداخلية وتبعيتها الخارجية لتوجيه أنظار الشعب إلى مظهر فارغ للوحدة القومية مستغلة حاجة الشعب العربي التي تضاعفت مع ظروف الخطر الجديد إلى تحقيق وحدته.
الا ان الخطوات التقدمية والاستقلالية لم تعط في مصر كل ثمارها الايجابية ولم ترتكز حتى الآن على أسس شعبية مضمونة البقاء بينما بقيت في سوريا شكلية في حدود الشعارات لأنها في كلا البلدين ما زالت تفتقر إلى دعامة أساسية هي الوحدة التي تحميها وتغذيها. كما إن محاولات الفئة الحاكمة في العراق في السنوات الأخيرة لتحقيق خطوة اتحادية باءت بالفشل وانتقلت إلى عكسها فعزلت العراق عن بقية الأقطار العربية لان الخطوات التوحيدية تشترط الخطوات الإستقلالية والتقدمية ولا تتفق مع الأحلاف الإستعمارية والحكم الرجعي الإقطاعي.
وكان على حزبنا في وسط هذه الالتباسات المعقدة أن يقف الموقف القومي السليم فيشق للحركة الشعبية بشعاراتها وأهدافها التحررية التقدمية القومية طريقها، ويحارب محاولات الإستعمار والحكومات الرجعية المؤتمرة بأمره، ويقاوم انحراف المحاولات التحررية والتقدمية التي لا تقوم على النضال الشعبي ولا تعمل على أساس وحدة المصير العربي، أي انه كان على الحزب في نضاله ضد الإستعمار وأحلافه والحكم الرجعي واستغلاله، وفي نضاله من اجل التحرر والتقدم أن ينقذ مطلب الوحدة القومية التي كادت تضيع بين دعاتها المشبوهين وخصومها التقدميين والمتسترين بالحرية والإستقلال ليحافظوا على مصالح التجزئة ويعرقلوا كل توحيد. فالحزب يعرف ما تنطوي عليه مشروعات التوحيد المزيفة من أغراض رجعية ومقاصد استعمارية ولكنه يعرف أيضا أن مجالا كبيرا يتفسح لخطوات توحيدية جريئة وجزيلة النفع ليس بمقدور الإستعمار أن يمنعها أو يتدخل فيها وان الحائل الوحيد دون تحقيقها هو عرقلة الحكام والمصالح الشخصية والإقليمية. ويحرص الحزب أخيرا بالنسبة إلى الأقطار التي لم تستطع بعد أن تتحرر من الإستعمار والرجعية أن يبقيها وثيقة الاتصال مع غيرها من الأقطار الأكثر تحررا سواء أكان اتصالا شعبيا نضاليا أم تعاونا رسميا في مجالات الاقتصاد والثقافة، إذ ليست الغاية عزلها ومعاقبتها، بل على العكس إمدادها بكل القوى التي تعجل في تحررها.
وان الخطوة الايجابية الجدية الوحيدة التي سارت على صعيد التوحيد العربي والتي أيدها حزبنا ودعمها هي خطوة الميثاق العربي، فلأول مرة ظهرت في أقطار عربية إمكانية تحقيق خطوة توحيدية سليمة الشروط ومستقلة عن تدخل الإستعمار ومصالح المستعمرين، وكان في مواقف الحزب من حكومة الائتلاف السابقة وفي البيان الذي رد به على البيان الوزاري لحكومة السيد سعيد الغزي القائمة والذي حجب به الثقة عن هذه الحكومة... توضيح للموقف الايجابي الذي يقفه حزبنا من القضية العربية ومن كل خطوة توسع نطاق التعاون العربي بشكل جدي وتقوي بالتالي وتوسع قاعدة النضال الشعبي في البلاد العربية في سبيل الوحدة الصحيحة.
وأخيرا لئن كان حزبنا يعالج قضايا السياسة العربية بهذا المنطق وبهذا الأسلوب في فلأن ذلك مستمد من صميم فكرته ومن أساس تنظيمه الذي قام على اعتبار البلاد العربية وطنا واحدا ومجالا واحدا لنشاطه(2) ونضاله ولان فروعه في البلاد العربية تكون وحدة نضالية هي التعبير الأول عن فكرة الوحدة التامة في المصير العربي.
والآن لننتقل لعرض مواقف الحزب الشيوعي من قضايا السياسة العربية من خلال نظرته الأساسية لهذه السياسة.
فالحزب الشيوعي يرى البلاد العربية بالدرجة الأولى مسرحا للتنازع الإستعماري ومنطقة إستراتيجية تسيطر عليها دول المعسكر الغربي وتقوم مهمته الأولى على الإفادة من تضارب مصالح هذا المعسكر ومن نقمة الشعب العربي عليه وإرادته في التحرر، ليصل من ذلك إلى فك الحصار الذي تسعى الدول الغربية إلى ضربه حول الاتحاد السوفييتي ولشق طريق لدخول النفوذ السوفييتي إلى هذه المنطقة.. ولا نقصد بذلك أن الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية تهمل كل اهتمام بقضايا هذه البلاد الاجتماعية والسياسية الداخلية، بل نريد القول أن كل هذه الأمور تأتي في درجة ثانوية جدا وان معالجتها من قبل الشيوعيين تخضع دوما لمنطق النظرة الأولى أي الصراع بين المعسكر الغربي والاتحاد السوفييتي وان هذه المعالجة يجب أن لا تتضارب بشكل من الإشكال مع المصلحة الرئيسية التي هي مصلحة السياسة السوفيتية، وهذا ما يفسر تقلبات مواقف الأحزاب الشيوعية في بلادنا من مختلف قضايانا القومية، ويفسر أيضا السكوت المتعمد والإغفال المقصود لكثير من القضايا التي تهم العرب سواء في داخل الأقطار أو في العلاقات بينها كلما اقتضت المصلحة الشيوعية أن يضحى بهذه القضايا أو أن يرجئ طرحها لكي لا تستأثر بالاهتمام الذي يريد الشيوعيون أن يوجهوه كله نحو القضايا الخارجية.
الأحزاب الشيوعية منتشرة في أكثر الأقطار العربية ولكنها على ما بينها من وحدة مبدأية وسياسية وتنظيمية قوية تأبى أن يكون لهذه الوحدة تعبير على الصعيد العربي، وتأبى إن تنظم نضالها وتوحده على أساس وجودها في وطن عربي واحد، ولا تلتقي فيما بينها إلا كما تلتقي مع الأحزاب الشيوعية في البلاد الأجنبية أي على صعيد السياسة الدولية.
ويمكن توضيح الفوارق المميزة لمواقف الحزب الشيوعي من السياسة العربية في ثلاث قضايا.
* قضية فلسطين:
منذ طرحت قضية فلسطين والوطن القومي اليهودي وتدفق هجرة اليهود إلى بلادنا، لم يكن للأحزاب الشيوعية أي موقف واضح جدي من هذا العدوان على قوميتنا وأرضنا وسلامة مستقبلنا، بل كانت تكتفي عندما تضطر إلى إبداء رأيها بان تفرق بين زعماء الصهيونية المشبوهين بالمصالح الرأسمالية والصلات الإستعمارية وبين الشعب اليهودي الذي لم تنكر عليه الشيوعية حق هجرته إلى فلسطين والاستيطان فيها.
وعندما طرحت قضية فلسطين في شكلها الجدي والحاسم منذ عام 1947 ووقف الاتحاد السوفييتي موقف الدول الإستعمارية من إقرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة يهودية فيها.. سارعت الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية إلى تبني سياسة التقسيم ووقفت من نضال الشعب العربي في هذه القضية موقفا سلبيا انهزاميا، لأنه لم يكن يعنيها من كل هذا الأمر إلا خدمة السياسة السوفيتية في أن تجلو بريطانيا عن قاعدة من قواعدها الإستراتيجية في الشرق الأوسط وان يكون للاتحاد السوفييتي مجال التدخل في هذه المنطقة عن طريق إنشاء دولة إسرائيل.
* قضية المغرب العربي:
كانت الأحزاب الشيوعية في أقطار المغرب العربي حتى عام 1936 أحزابا ثورية تناهض الإستعمار والبرجوازية المتعاونة معه، ولم يكن للحزب الشيوعي الفرنسي إذ ذاك إلا اثني عشر نائبا في البرلمان الفرنسي، ولكن بعد نجاح الجبهة الشعبية وحصول الشيوعيين على أكثر من سبعين مقعدا من هذا البرلمان وتعاونهم مع الاشتراكيين والراديكاليين، بدلوا سياستهم تجاه المغرب ولم يعودوا يدعمون حقوقه ومطالبه في الحرية والإستقلال بحجة أن مصلحة الشعب في المغرب تتحقق باستمرار ارتباطه بفرنسا إذا كان الحكم الفرنسي تقدميا أكثر مما تتحقق في استقلاله عنها وما يتبع هذا الإستقلال من سيطرة للطبقة الإقطاعية والبورجوازية على جمهور الشعب. وكان هذا هو أيضا موقف الحزب الشيوعي في سوريا من قضية المغرب ومن قضية سوريا نفسها وقضية استقلالها.
وقد تقلبت سياسة الأحزاب الشيوعية في قضية المغرب مع تقلبات السياسة السوفيتية كما هو شأنها. وفي سنة 1945 اشترك الشيوعيون الفرنسيون في الحكم وسكتوا عن سياسة الحكومة الفرنسية من المستعمرات وعن المجزرة الهائلة التي ارتكبها جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر وقتل فيها ما يقرب من خمسين ألف عربي وسكتت الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية أيضا.
ثم بعد أن تكتلت القوى الرجعية في فرنسا وأمسى الشيوعيون فيها معزولين ومعارضين للحكم اعتدل موقفهم من قضية المغرب وأصبحوا مؤيدين لحرية الشعب فيه، ولضرورة تنفيذ الإصلاحات الملحة دون أن يصل بهم ذلك إلى حد تبني مطلب العرب في الإستقلال التام، وهذا النقص في تجرد السياسة الشيوعية وفي تجاوبها مع المشاعر والحاجات الشعبية القومية جعل الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي عنصرا ثانويا في حركة النضال التي تقوم على جماهير الشعب العربي نفسه وفي ظل قيادة وشعارات قومية.
* قضايا الوحدة والتوحيد:
أذا كان الشيوعيون يتحاشون في المجال النظري والمبدئي مقاومة فكرة الوحدة العربية أو يضطرون أحيانا بدافع مسايرة المشاعر الشعبية أن يعترفوا بمبدأ الوحدة ويضيفوا إلى شعاراتهم بعض التعابير القومية العربية حسب الظروف والمناسبات فإنهم في المجال العملي.. كانوا حتى الآن مقاومين لكل خطوة توحيدية ومستنكفين عن المطالبة والمساهمة في عمل إنشائي في سبيل الوحدة. ذلك لان الوحدة العربية -من وجهة نظرهم- تعتبر في الدرجة الأولى توحيدا للسيطرة والنفوذ الإستعماريين في هذه البلاد. وبالفعل كانت مشروعات التوحيد حتى الماضي القريب تطرح بشكل مشبوه من حكومات وفئات منقادة للنفوذ الأجنبي ولكن هذا لم يمنع الشعب العربي من التعلق المتزايد بهدف الوحدة وبكل خطوة تقرب منه، ومن البحث عن الشروط السليمة الواقعية التي يمكن أن تتحقق فيها خطوات في هذا السبيل، وهذا ما يعبر عنه حزبنا إذ وضع شرطا أساسيا لهذه الخطوات يقضي بأن تكون مقوية ومنمية للنضال الشعبي وسليمة من التدخل الأجنبي. ولكن الشيوعيين يقفون عند الرفض والتجريح والتشويه والاتهام لكل خطوة من هذا النوع ولا يعنيهم في شيء أمر تلبية هذه الحاجة الحيوية التي تدفع الشعب العربي نحو الوحدة وقد ظهر ذلك واضحا في موقفهم من مشروع "الميثاق العربي"، وهو أول مشروع للتوحيد يأتي خاليا من كل اثر للنفوذ الإستعماري وموضع هجوم ومقاومة المعسكر الإستعماري بكامله.. ورغم ذلك فقد تجاهله الشيوعيون ولم يرفعوا صوتا لتأييده واكتفوا بتأييد السياسة الخارجية لحكومتي سوريا ومصر في مقاومة الأحلاف العسكرية الإستعمارية وخاصة الحلف العراقي التركي.
وحقيقة الأمر أن الشيوعيين في هذا الموضوع لا يكتفون بانتهاج السياسة الموافقة لمصلحة السياسة السوفييتية من حيث نزاعها مع دول المعسكر الغربي في منطقة الشرق الأوسط.. بل يراعون أيضا في سلبيتهم من قضايا الوحدة والتوحيد مصلحة وجودهم كأحزاب شيوعية في البلاد العربية ويعرفون أن تحقيق الخطوات التوحيدية ينمي إمكانيات الحركة العربية الانقلابية وإمكانيات الانبعاث من الداخل ويضيق بالتالي مجال عمل الشيوعيين وانتشارهم.
في السياسة الدولية
إن نظرة حزبنا إلى السياسة الخارجية تختلف عن النظرة الانتهازية والنظرة الشيوعية معا. ففي حين تبيح النظرة الانتهازية شتى الارتجالات والتناقضات والمعالجات الجزئية قصيرة النظر، وتفرض على السياسة الغموض والتذبذب الدائم، وتسمح بتسخير السياسة القومية للأغراض والمصالح الشخصية، وفي حين تنطلق النظرة الشيوعية من نقطة مذهبية مصطنعة هي خارج دائرة الأمة العربية وجو روحها ومصلحتها وظروفها، فنظرة حزبنا مستمدة من عقيدة، ومتقيدة بالتالي بمبادئه الأساسية ونظرته الإنسانية، فهي مرنة في حدود هذه المبادئ متجددة متجاوبة مع الحاجات الواقعية في نفس الوقت الذي تعمل فيه على تغيير الواقع وتجسيد مبادئها فيه.. أما نقطة انطلاقها فقومية عربية تعمل بوحي مصلحة الأمة العربية وحاجاتها ورسالتها الإنسانية.
وقد كانت مواقف الحزب في السياسة الخارجية والدولية تعبيرا عن هذه النظرة.. مقاومة عنيدة للاستعمار في ارض العرب في الدرجة الأولى ومقاومة واستنكار للاستعمار في كل بقعة من العالم ودفاع عن حرية الشعب العربي وجميع الشعوب المستعمرة. ولكن الحزب لم يقع في درك سياسة الحكام والأحزاب المتهاونة مع المستعمر أو المسخرة له والتي تبرقع تهاونها وتآمرها ببرقع الواقعية، ولم يقع كذلك في تناقضات الأحزاب الشيوعية في بلادنا عندما كانت تهادن المستعمر أو تماشيه لان في ذلك مصلحة بعيدة لجميع الشعوب حسب ادعائها وللاتحاد السوفيتي في حقيقة الأمر. ونحن نعتقد أن مصلحة الشعوب هي في أن يدافع كل شعب عن حريته واستقلاله وان يناضل ضد كل معتد عليه وان يقوم بين الشعوب المناضلة في سبيل حريتها تساند وتعاون حر لا يفرض فرضا ولا يضحي بمصلحة بعضها في سبيل مصلحة بعضها الآخر.
وليس ثمة ما يثبت أن كل دفاع عن مصالح الاتحاد السوفيتي وكل تقوية له يعودان حتما بالنفع على حرية الشعوب بالشكل الآلي المتعسف الذي يفترضه المنطق الشيوعي، خاصة إذا عرفنا أن الاتحاد السوفيتي رغم كونه دولة اشتراكية تقدمية، فان سياسته تخضع لمقتضيات مصلحته القومية ولمقتضيات الدولة المستقلة التي لا ننسجم دوما مع حاجات وظروف الشعوب الثائرة. فقد كان من مصلحة السياسة السوفيتية أن يعتدل الشعب اليوغسلافي في حركته التحررية أثناء الحرب الأخيرة وبعدها وفي تلبية حاجاته الاشتراكية الملحة، كما كان في مصلحة تلك السياسة أن يؤجل الشعب الصيني ثورته عقب الحرب الأخيرة ولكن اليوغسلافيين مضوا في طريقهم واضطرهم ذلك إلى الانشقاق عن المنظمة الشيوعية، كما مضى الصينيون في طريق ثورتهم واضطر الاتحاد السوفيتي أن يتبناها ويوافق عليها بعد أن وجد نفسه أمام الأمر الواقع.

ويمكن القول أيضا أن الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية بالرغم من كونها أحزابا معارضة بعيدة عن الحكم وفي بعض الأحيان مضطربة وملاحقة.. فان سياستها نتيجة لتقيدها بالسياسة السوفيتية تعالج بعض المواقف معالجة انتهازية معتدلة، ذلك لان الشيوعية في الاتحاد السوفيتي حزب حاكم يراعي بعض الاعتبارات التي تراعيها كل حكومة.. وعندما تنعكس السياسة السوفيتية على الأحزاب الشيوعية في بلادنا يظهر أحيانا هذا التناقض والتباين بين عقيدة الحزب الشيوعي الثورية وبين سياسته الانتهازية أوالتطورية.
أما حزبنا فلا يحتاج في أي حال من الأحوال إلى مثل هذا التباين بين العقيدة والسياسية لأنه لا يتقيد بسياسة خارجة عن نطاق الأمة العربية ولا يستلهم إلا حاجات الشعب العربي وهي حاجات ثورية لا تقبل المساومة والاعتدال.
وتبعا للملاحظات السابقة فقد نظر حزبنا إلى سياسة المعسكرات التي ظهرت على اثر الحرب العالمية الأخيرة والى التناحر بين المعسكر الغربي والمعسكر الشيوعي نظرة استقلال وحياد، فاعتبر أن لا مصلحة للعرب ولا لشعوب العالم في الانجرار وراء هذه السياسة والانحياز إلى أحد الطرفين، مع التفريق الدائم بين موقف العرب القومي، الذي هو موقف نضال عنيف ضد دول المعسكر الغربي المستعمر لبلادهم، وبين موقفهم الدولي الذي عبروا عنه بالحياد الايجابي والذي يقصد منه.. "من الناحية المبدئية".. عدم الإقرار بمشروعية الانقسام على أساس الحلين الرأسمالي والشيوعي وضرورة تجاوزها إلى ما هو أعلى وأكثر حرية وايجابية، "ومن الناحية العملية" عدم تشجيع التناحر الدولي وذوبان جميع الشعوب في معمعة هذا الصراع، بل فسح المجال لتعايش الشعوب ضمن مختلف الأنظمة الملائمة لحاجات ومميزات كل منها. وقد التقى الشيوعيون مع دول الغرب الإستعمارية في مقاومة الإتجاه الحيادي واتهامه طوال سنوات.. إلى أن فرض هذا الإتجاه نفسه وخاصة بين شعوب آسيا وأفريقيا، وسلمت الشيوعية بمشروعيته إذ وجدت فيه خطوة نحو تقليص النفوذ الغربي في هذه البلاد بينما لا يزال المعسكر الغربي يقاومه بمحاولاته المتكررة لربط هذه البلاد بأحلافه العسكرية. وكان نجاح الإتجاه الحيادي تعبيرا قويا عن إرادة الشعوب في التحرر من سيطرة الدول الكبرى، وبالنسبة الينا تعبيرا عن إرادة الشعب العربي في التحرر من الإستعمار وبناء المجتمع العربي الاشتراكي على أسس قومية متلائمة مع روح امتنا ومتجاوبة مع حاجاتها. وتحسن الإشارة هنا إلى أن سياسة الحياد التي قال بها حزبنا بعد الحرب الأخيرة تتصل بموقفنا العقائدي الذي عبرنا عنه منذ تأسيس الحزب والذي يؤمن باتجاه ثالث فوق الإتجاهين البارزين في هذا العصر ينظر إلى علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة الشعوب بعضها ببعض، نظرة تختلف عن الديمقراطية الشكلية للمجتمعات الرأسمالية، وعن التنظيم الشيوعي المصطنع، وتجد تعبيرها الحي في النظام الاشتراكي القومي المقدِّس لكرامة الإنسان وحريته والموصل إلى تعاون حر بين شعوب اشتراكية حرة.
وعندما نقارن بين موقف حزبنا وموقف الأحزاب الشيوعية في السياسة الخارجية فهذا يعني أننا نقف موقفا معينا من سياسة الاتحاد السوفيتي الخارجية لأنها هي منبع السياسة الخارجية لتلك الأحزاب. ولنقل منذ البدء، بأننا رغم استقلالنا عن هذه السياسة،لم نضعها في يوم من الأيام في صف واحد مع سياسة الدول الإستعمارية، بل وجدنا فيها دوما معدلا كبيرا لطغيان الدول الرأسمالية، كما وجدنا في الاتحاد السوفيتي عاملا مهما في تشجيع قوى التحرر في العالم (في الأعداد الأولى من جريدة البعث سنة 1946 كنا نطالب الدول العربية بإيجاد علاقات تعاون مع الاتحاد السوفيتي ضد الإستعمار المتسلط على بلاد العرب. كما نريد أن نذكر في هذا المعرض ما كان عليه موقف الاتحاد السوفيتي من دعم قضية استقلال سوريا ولبنان أمام هيئة الأمم المتحدة.. ).
أما سياسة الاتحاد السوفيتي بالنسبة إلى البلاد العربية، فكانت حتى الفترة الأخيرة لا تقيم وزنا للشعب العربي كقوة نضالية في العالم، بل تكتفي بالنظر إلى بلادنا من خلال وضعها الجغرافي وكونها محتلة من قبل الدول الغربية، وفي الحرب الأخيرة، وبعد دخول روسيا في حربها ضد النازية، كان موقفها موقف الحليف للدول المستعمرة لبلاد العرب، وبعد الحرب كان اهتمامها بالبلاد العربية لا يتعدى الحرص على بقاء الأوضاع الراهنة ومنع زيادة توسع الدول الغربية فيها. وان ضعف الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية وبعدها عن التأثير الجدي في سياستها، وبعد الاتحاد السوفيتي عن الاتصال بواقع البلاد العربية وما يتركز فيها من نضال شعبي قوي وتقدمي ضد الإستعمار، ومن ثم نظرته الخارجية وغير الجدية لمستقبل هذه البلاد ولتطورها.. كان يلجؤه إلى مثل هذه السياسة التي لا تقيم وزنا للشعب العربي في السياسة الدولية ولا تعتبر إلا الوضع الاستراتيجي للبلاد العربية كبلاد خاضعة للمعسكر الغربي.
ولكن تبدلا جديا ظهر في السياسة السوفيتية تجاه البلاد العربية في الآونة الأخيرة. وذلك ليس في مجرد الأهمية التي بدأت تأخذها القضايا العربية في السياسة الدولية، بل لان الاتحاد السوفيتي بدأ يدرك مدى طاقة الشعب العربي النضالية كقوة تحررية وتقدمية ضد الإستعمار الغربي، كما يدرك ما أخذ يفرضه هذا الوعي الشعبي في النضال على سياسة حكومات بعض الأقطار العربية من استقلال عن توجيه وسيطرة دول المعسكر الغربي من رفض للتحالفات العسكرية معها، فتبدل سياسة الاتحاد السوفياتي نحو الأقطار العربية -خاصة مصر وسوريا- وما تظهره دول المعسكر الشيوعي من استعداد للدعم الاقتصادي والتزويد بالعتاد الحربي، ثم ما ألزمت به هذه السياسة الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية من تبديل في خطتها، في تقريبها من الأحزاب التقدمية وفي تبنيها لبعض الشعارات القومية العربية.. كل ذلك إنما جاء نتيجة لبروز نضال الشعب العربي في مختلف أقطاره بشكل تحرري ومعاد للاستعمار الغربي. فالتقاء المصلحة السوفيتية مع النضال العربي ضد استعمار المعسكر الغربي هو الذي جعل الاتحاد السوفيتي يقف هذا الموقف الايجابي من بعض الأقطار العربية، الموقف الذي ليس له من علاقة بوضع الأحزاب الشيوعية في هذه الأقطار.
الشيوعيون وسياسة التعاون:
عندما ظهر حزبنا قابله الشيوعيون بالعداء الشديد وكالوا له الاتهامات بالنازية والرجعية وركزوا عليه هجومهم متناسين الإستعمار وعملاءه والطبقة الإقطاعية والرأسمالية وناظرين إليه على انه العدو الأول. واستمروا في هذا الموقف حتى نهاية الحرب، ثم اعتدلت دعايتهم الرسمية بعض الاعتدال ولكن توجيههم الداخلي لأعضائهم لم يتبدل. وكانوا إلى زمن قريب جدا يصنفون حزبنا مع الأحزاب البورجوازية التي لا تنوي جديا أن تقاوم الإستعمار ولا تستطيع أن تمثل مطالب الشعب تمثيلا ثوريا. فمواقف الحزب القومية ضد الإستعمار الغربي زمن الحرب وبعده، ونضاله في سبيل الوحدة العربية.. كانت تفسر بأنها خدمة غير مباشرة للاستعمار. ونضال الحزب في سبيل قضية الفلاحين فسر أيضا انه خدمة للإقطاعية والرجعية كيما تبطش بالشعب. وكانوا وما زالوا يفرقون بين قيادة الحزب وقاعدته وبين أشخاص وأجنحة من الحزب إلى آخر هذه الأساليب المعروفة.
وتزول الدهشة عندما نعرف أن هذا الأسلوب ليس مقتصرا على الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية، بل هو أسلوب الأحزاب الشيوعية في كل بلاد العالم، وهو موقفهم من الأحزاب الاشتراكية والتقدمية بصورة عامة، لأنهم يرون فيها منافسا لهم على قيادة الشعب والطبقة العاملة، ويشتد هذا العداء والهجوم إذا كانت بعض هذه الأحزاب الاشتراكية قومية في نظرتها وسياستها.
إن سلوك الشيوعيين مع الأحزاب الاشتراكية والثورية غير الشيوعية ينبع من منطق فكرتهم الثورية الذي لا يجيز تجزئة الحركة الثورية، والتجربة الوحيدة التي يجيزها بل يفرضها فرضا، هي الانقسام بين الحركة الشعبية الثورية وبين أعدائها الرأسماليين والبورجوازيين. وهذا المنطق يعمل على توسيع الانقسام وزيادة حدته، ومن الطبيعي إذن أن ينظر باستياء واتهام إلى الأحزاب التي تنافسه على تزعم هذا الانقسام، لذلك يركز عليها هجومه وضغطه لكي لا يبقى أمامها إلا احد مخرجين، إما أن تذوب في صف الشيوعية وإما أن تنحاز إلى صف أعداء الشعب.
إلا أن بعض التبدل في السياسة الشيوعية قد حصل في الآونة الأخيرة سواء في المجال الدولي أو المجال الداخلي، أي أن الاتحاد السوفيتي بعد أن قطع شوطا بعيدا في تركيز ثمار الثورة الروسية الاشتراكية وتدعيم كيان هذه الدولة القومي، وبعد أن برهنت له الوقائع على أن إمكانيات الثورة العالمية ليست وشيكة التحقق، أقر أخيرا بإمكان التعايش مع الدول الأخرى ذات النظم المختلفة، وذلك دون أن يهمل دعوته العالمية. وانعكست سياسته الدولية هذه على سياسة الأحزاب الشيوعية بالنسبة إلى مواقفها من الأحزاب اليسارية داخل البلدان التي تنتشر فيها هذه الأحزاب، وأدى أيضا إلى نوع من التعايش لا يتنازل فيه الشيوعيون عن مراميهم المكتومة في طرح الحركات الثورية غير الشيوعية من الساحة والاستئثار وحدهم بها.
إلا أن الأحزاب الشيوعية قد هجرت سياسة العزلة منذ نحو عشرين سنة ووجدت مصلحتها في الانبثاث بين الأحزاب الأخرى، والتقدمية منها بصورة خاصة، ودعوتها بين الحين والآخر إلى تكتلات لدفع خطر مشترك أو ترويج شعار أو تحقيق هدف آني. وهي تعلم أن اشتراكها مع أحزاب لا تدانيها في ضيق المذهبية ودقتها وفي قوة التنظيم وبراعة الدعاية والاستغلال يعود عليها دوما بالربح، بينما يفقد الأحزاب المتعاونة معها شيئا من وضوح هويتها وسلامة أسلوبها وعدد أتباعها. وهذا ما حدث أيضا بالنسبة إلى الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية وخاصة في سوريا. ففي زمن الحرب العالمية اغتنم الشيوعيون فرصة محالفة الاتحاد السوفيتي للدول الغربية، وسكوت هذه الدول عن نشاطها في البلاد العربية، وأخذوا يوسعون صلاتهم في أوساط السياسيين الانتهازيين وكبار موظفي الدولة تحت ستار تكتلات لمكافحة الفاشستية والانتصار لقضية الحلفاء والدول الديمقراطية.. وبعد الحرب حولوا شعاراتهم نحو الدفاع عن الإستقلال والسلام العالمي ونحو مقاومة المشاريع الإستعمارية في الشرق الأوسط وهم في هذه المحاولات الرامية إلى الانبثاث والانتشار وترويج الشعارات، لا يمتنعون عن التعاون مع أية فئة وشخص من أي لون كان، لان نتيجة هذا الأسلوب أن يظهر الشيوعيون أمام الرأي العام على قدم المساواة مع الفئات الوطنية فتزول عنهم صبغتهم القديمة التي كانت تعزلهم عن الشعب باعتبارهم حزبا يستمد سياسته وتعليماته من خارج البلاد.
وليس مستغربا أن يلاقي هذا الأسلوب في مجتمعنا رواجا ونجاحا بسبب كثرة العناصر الانتهازية التي لا تصدر عن عقيدة ولا تتقيد بمبدأ، والتي يقدم لها الشيوعيون مجالا للشهرة والبروز وتبادلا في المنفعة الآنية. يضاف إلى هذه العناصر فئة غير قليلة من الأفراد الذين لا يقوون على تحمل مسئولية النضال الجدي في سبيل تحرر البلاد وتقدمها، ومن أفراد ذوي وجاهات ومصالح تتعارض مع مصلحة الإتجاه الشعبي، فيأتي الشيوعيون ويقدمون لجميع هؤلاء فرصة الاصطباغ بالصبغة التقدمية دون أن تكلفهم هذه الصبغة أية تضحية بمصالحهم وأي تبديل في سلوكهم بل على العكس، تتيح لهم مجالا لتقوية وجاهتهم وتغطية مصالحهم وتصرفاتهم الرجعية بستار التقدمية. ومن هؤلاء عادة تشكل جماعات أصدقاء الاتحاد السوفيتي والشباب الديمقراطي وأنصار السلم وما إلى ذلك من تسميات، وتفتح أمام هؤلاء أبواب الرحلات المجانية إلى المؤتمرات العالمية والسياحات الدورية مقابل توقيعهم على العرائض والبرقيات وإعطاء التصريحات والتبشير بالشعارات الشيوعية.
ومن مرامي هذا الأسلوب أيضا تجميد قسم من الطبقة المثقفة، المهيأ بحكم ثقافته لان يكون مناضلا في صف الحركة الشعبية التقدمية، والذي لم يختر بعد طريقه ولم يقبل بالحزبية الشيوعية مجالا لعمله ونضاله، وعزل هذا القسم عن الانضواء في حركة أو اتجاه آخر وإشغاله بهذا النوع من النشاط وفي هذه الأشكال من المنظمات ولصبغه عن هذا الطريق تدريجا بالصبغة الشيوعية.
أما موقف الشيوعيين من حزبنا بصورة خاصة فقد اتخذ بعد الحرب شكل الهجوم المرفق بالضغط في سبيل التعاون، ويجري هذا الضغط من قبل الشيوعيين مباشرة ومن قبل أنصارهم في وقت واحد.. وواضح أن الشيوعيين يحرصون، منذ سنوات عدة على هذا التعاون مع حزبنا ويسعون إليه لأسباب عديدة أهمها:
1- صفة حزبنا العقائدية، وهويته الاشتراكية الانقلابية، وقاعدته الشعبية النضالية التي تريد الشيوعية بث دعوتها وشعاراتها فيها ومنازعتنا قيادتها وتوجيهها.
2- التقاء الشيوعيين مع حزبنا في بعض الشعارات السياسية.. مقاومة الإستعمار وأحلافه العسكرية، مقاومة الشركات الأجنبية، وبعض الشعارات التقدمية الداخلية انتصارا لقضايا العمال والفلاحين.
3- قوة حزبنا الجماهيرية والثقة القومية التي يتمتع بها، تشعران الشيوعية بالحاجة إلى التعاون معنا لان قوتهم الخاصة بهم لا تكفي بمفردها حتى لمجرد فتح معركة نضالية.. فضلا عن عدم كفايتها لنجاح هذه المعركة.
4- ويرمي الشيوعيون من وراء سعيهم للتعاون معنا، فضلا عن تأييد شعار أو إنجاح مطلب، إلى تشويه وتشويش حركتنا وإفقادها استقلالها وأسبقيتها في قيادة الشعب، وخلق الالتباس لدى الرأي العام بين حركتنا والحركة الشيوعية وخلق التشويش والاضطراب في داخل حزبنا من امتزاج أسلوبنا وشعاراتنا بالأسلوب والشعارات الشيوعية، والتعاون بهذا المعنى هو شكل آخر مغطى من أشكال العداء الذي تضمره الشيوعية للأحزاب والفئات التقدمية والثورية.
موقف حزبنا من الجبهات الائتلافية ومن التعاون مع الشيوعيين
لنتساءل أولا عن نظرة حزبنا إلى التعاون مع الفئات الأخرى بصورة عامة.. إن حزبنا هو حركة قومية انقلابية وجدت لتوجد انقساما عميقا في حياة العرب تكون نتيجته بناء أسس جديدة صحيحة لهذه الحياة يرتفع عليها بناء البعث العربي الجديد. هذه هي الغاية للحركة، ولكن المراحل العملية الموصلة إلى هذه الغاية لا يمكن أن تكون كلها متماثلة ولا يمكنها إلا أن تراعي ضرورات العمل الواقعي بصورة عامة، أي الحد الادنى من الاعتراف بالواقع كيما تستطيع فكرتنا التفاعل مع هذا الواقع والتأثير فيه وبالتالي السيطرة عليه وخلق المجتمع الجديد من داخله، وإلا أن تراعي أيضا الضرورات الخاصة بكل ظرف متوخية في ذلك كله أن تحقق تقدما متينا صلبا للفكرة لا تراجع بعده.
قلنا أن حركتنا قومية انقلابية، وهذا يعني أن انقلابيتها محصورة في نطاق الأمة العربية ومتوخية بعث قوميتها لا طمس هذه القومية ومحوها، ولا تعتمد في تحقيق انقلابنا -كما تعتمد الشيوعية- على الثورة العالمية وتضامن الطبقة العاملة في جميع البلدان ضد الطبقة الرأسمالية، وإنما أهم اعتمادنا على قوة شعبنا وشعوره بشخصيته ووعيه لمتطلبات تحرره ونهضته، هذا مع العلم بان فكرة حزبنا لا تفهم الانبعاث القومي بأنه مستقل ومنفصل عن اتجاه التاريخ، بل تحرص بإصرار على الانسجام بين الشعبين وبالتالي تعتمد أيضا على الحركة التحررية التقدمية عند شعوب العالم. إلا أنها تعتبر أن مساهمتها في هذه الحركة العالمية تتحقق بتركيز جهودها على إيقاظ وتحرير القوى الانقلابية في الشعب العربي، وليس كما يعتبر الشيوعيون أن هذه المسافة يجب ان تكون بالخضوع لتوجيهات ومصلحة المنظمة الشيوعية العالمية المتجسدة عمليا بالاتحاد السوفيتي.
وهذا الاعتماد على الشعور القومي يفرض أن يكون الانقسام الذي يعمل حزبنا على خلقه في المجتمع العربي
انقساما قوميا بالدرجة الأولى، وان تكون المصالح الطبقية مثل الجسم والثقل الواقعي لهذا الانقسام القومي
(يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بشير الغزاوي




المساهمات : 726
تاريخ التسجيل : 11/12/2010

في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) Empty
مُساهمةموضوع: رد: في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79)   في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) Icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 1:27 am

في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) 552657368
في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79) 806772312
في سبيل البعث: الجزء الرابع
الباب الخامس:

موقفنا السياسي من الشيوعية
موقفنا من الشيوعية(1)(79)

وان يمكن بالتالي توافر صعيد قومي تلتقي عليه الأمة في بعض الحالات التي يكون فيها الكيان القومي مهددا بخطر استعماري وخارجي كبير واضح يكون فيه الالتقاء على الصعيد القومي المشترك مساعدا في النتيجة على توسيع هذا الانقسام القومي الذي نريده وزيادته وضوحا لمصلحة اتجاهنا الانقلابي لا أن يحصل العكس فنسمح للطبقة المستغلة والتي يختبئ وراءها الإستعمار نفسه، أن تتذرع بين الحين والآخر بالأخطار الإستعمارية والخارجية لتضعف الحركة الانقلابية وتطمس اتجاهها وتستدرجها إلى مستوى التعاون الانتهازي والمساومات المصلحية. ويمكن أن يقال الشيء نفسه بالنسبة للوحدة العربية وواقع التجزئة التي تشكل خطرا لا يقل عن خطر الإستعمار ولا ينفصل عن سياسة الإستعمار. وفي هذه الحالة أيضا تكون مشروعية الالتقاء على الصعيد القومي مشروطة أيضا بان تكون حصيلة هذا الالتقاء تقوية للحركة الانقلابية واتجاهها لا مجالا لاستغلال الفئات الحاكمة لقضية الوحدة بقصد ضرب الحركة الانقلابية. والضمانة في جميع هذه الحالات هي أن يكون حزبنا هو الذي يختار الظرف والزمن لمثل هذا الالتقاء وان يدخل التعاون وهو مسلح بنضال القوى الشعبية التي تضغط وتهدد وتفرض بقوة نضالها منع استغلال الفئات الرجعية لهذا التعاون.
فانه لا يفترض تكتل جميع الأحزاب والفئات، بل من واجب الحزب أن يسعى لقصر التعاون، عندما يكون ضروريا، على الأحزاب والفئات المتوسطة بينه وبين الطبقة المستغلة ذات المصالح الكبرى، ويسعى إلى أن يجر هذه الفئات المتأرجحة إلى طرفه وأن يبث شعاراته بين قاعدتها الشعبية، ولكن ذلك يشترط شروطا واضحة وحسابات دقيقة وظروفا ملائمة لكي يكون الحزب دوما في هذا التعاون المحتمل هو الموجه والمسيطر وبأن يحتفظ ضمن هذا التعاون بصفته الانقلابية فلا تجرفه مصالح الفئات الأخرى وان يخرج دوما من هذه العمليات وقد ازدادت انقلابيته وضوحا وقوته النضالية نموا وتماسكا.
وأخيرا يجيز حزبنا التعاون كوسيلة للدفاع عن النفس عندما تتكتل جميع القوى الرجعية المدعومة بالقوى الإستعمارية بقصد القضاء على الحركة الانقلابية، يغدو من واجب الحزب أن يفك الحصار المضروب حوله ويفيد من تناقض المصالح بين هذه القوى ليجتذب إليه أقلها خطرا ورجعية في سبيل تفريق تكتلها.
ومن الضروري الملاحظة أن التعاون لا يعني تعاونا في الحكم، بل يجب أن يبقى في نطاق المعارضة والنضال ما دام الحزب لم يبلغ حدا من الانتشار والتنظيم يضمن دعم أكثرية الشعب له دعما نضاليا واعيا منظما يمكنه من توجيه الحكم حسب برامجه وأهدافه ومن تحقيق إصلاحات أساسية فيه.
كما انه لابد لنا من التمييز أيضا بين التعاون العارض، الذي يقع حتى بين أكثر الهيئات والأحزاب عداء وتعارضا نتيجة التقاء في بعض الظروف والشروط وحول شعار أو في سبيل مطلب أو مصلحة، وبين التعاون المنظم والمرسوم الذي له شروطه وأهدافه ومداه وهو ما نسميه بالجبهة والتكتل والائتلاف.
واذا كانت الأحزاب والهيئات السياسية القائمة تدعونا دوما للائتلاف والتعاون والتكتل في شتى المناسبات، وخاصة بعد أن أصبح لحزبنا قوته الشعبية وممثلوه في البرلمان، فان حزبنا أيضا قد سبق ودعا إلى قيام تكتل وتعاون بينه وبين بعض الأحزاب والهيئات السياسية في مواقف وطنية وقومية وفي قضايا داخلية سياسية وحاسمة، كما اشترك حزبنا في تكتل وائتلاف مع أحزاب وهيئات بهذا القصد.
ولقد كان نضال حزبنا دائما ضد الفئات الحاكمة والأحزاب الرجعية والمسايرة لسياسة الإستعمار والمستغلة لجماهير الشعب والمعرقلة لتوحيد أجزاء الوطن، نضالا جذريا عنيدا، ولكن هذا كله لم يمنعنا من تقدير الظروف تقديرا واقعيا ومن التعاون في مناسبات قليلة وواضحة مع بعض هذه الأحزاب، أما لتقوية نضالنا ضد الإستعمار -وهو اكبر خطر على وطننا في المرحلة الحاضرة- وأما لتقوية نضالنا الداخلي ضد الرجعية المتحكمة وضد تآمرها على الحريات العامة والحياة الديمقراطية، ولكي نحقق بهذا التعاون المؤقت كسبا للوعي الشعبي الثوري وضمانة لبعض النظم الملائمة لانتشار هذا الوعي. وكان هذا التعاون الذي نادى به حزبنا يمكّن الحزب من فرض توجيهه وشعاراته على الفئات المتعاونة معه ويتيح له الاتصال والانتشار بين أوساط وجماهير جديدة ويحفظ له رغم ذلك وضوح هويته واستقلال شخصيته.
والفرق واسع بين هذا النوع من التعاون وبين التعاون الذي تدعو إليه وتمارسه الأحزاب الرجعية والانتهازية، إذ أن هذه الأحزاب قائمة في أساس تكوينها على التجمع المصلحي لتقاسم المنافع. ولئن كانت تدعو دوما لوحدة الصف فليس لدعوتها هذه أي مبدأ أو شعار واضح، بل أن الغاية منها على العكس إنما هي الحيلولة دون بلوغ القضية القومية حدا من الوضوح يعجل من سير الحركة الثورية وحل التناقض القائم في صميم حياتنا القومية. وقد تدعو هذه الأحزاب إلى تعاون عام في صف وطني واحد ضد الإستعمار وإسرائيل، وهذا يعني المحافظة على السياسة والأوضاع الراهنة التي هي من مصلحة هذه الأحزاب، والحيلولة دون أي تجديد أو تبديل أساس يخلق من الشعب قوة جدية في وجه الإستعمار وإسرائيل، فكأنهم بهذه الدعوة يريدون أن يبقى الإستعمار وان يستغل خطر إسرائيل، وإن همّ هذه الأحزاب هو في حقيقة الأمر عرقلة سير الحركة الانقلابية المهددة لمصالحهم ووجودهم وتأجيل الانقسام القومي العميق الذي تخلقه هذه الحركة، رامية من وراء خلقه إلى رفع الظلم والاستغلال عن كاهل الشعب وتفجير الإمكانيات الشعبية الهائلة التي لا تزال مخنوقة. وكأن الأحزاب المحافظة بهذا المنطق تنكر على حركتنا مبررات وجودها في هذه المرحلة التي لا تزال فيها البلاد العربية خاضعة للاستعمار ومعرضة لخطر إسرائيل، في حين أننا نعتبر أن وجود حركتنا وسيرها في طريقها الانقلابي النضالي، ومحافظتها على شخصيتها المستقلة، هي من اكبر العوامل المساعدة على تحرير الوطن العربي من الإستعمار وإسرائيل وان التعاون الذي نجيزه بالتالي ونرى فيه نفعا للقضية القومية ليس هو الذي تدعونا إليه، بل هو الذي يفرضه حزبنا على هذه الفئات أو على بعضها والذي يضطرها فيه إلى توضيح هويتها وفضح تناقضها والتخلي عن بعض مصالحها للانقياد لشعارات الحركة الثورية ودعم النضال الشعبي، حتى إذا كانت خسائرها من جراء هذا التعاون تربو على مكاسبها وتراجعت عن السير فيه كان ذلك شاهدا على ضعف وطنيتها ورسوخ نفعيتها وعامل تهديم لها وتقوية لنضال الشعب.
وليكن دوما واضحا في أذهاننا أننا بالرغم من اعترافنا بإمكان التقاء الأحزاب الوطنية في ساعة الخطر لدفع غزو أجنبي، التقاء مؤقتا تضمنه يقظة الشعور القومي وسيطرة الروح الشعبية الجماعية، أننا نقف دوما موقف الحذر سواء من دعوة الأحزاب المحافظة أو من دعوة الأحزاب الشيوعية الرامية كلها إلى خلط الحابل بالنابل وطمس وجه الحركة العربية الانقلابية. وخلافا لما يحاول الرجعيون أن يوهموا به الناس بان نضال هذه الحركة يفرق كلمة الأمة ويهدم قواها في أوقات الخطر، نؤمن نحن بان نضالنا لا يفرق إلا الخونة والدخلاء والنفعيين عن مجموع الشعب السليم، وان نضالنا لا يهدم إلا عراقيل الظلم والفساد والاستغلال المانع لانطلاق شعبنا فهو إذن نضال موحد وبناء.
وبديهي أن التعاون في نظرنا ليس إلا أسلوبا سياسيا تقتضيه قضية وطنية أو مطلب شعبي أو مرحلة قومية معينة، وليس هو غاية في ذاته أو مبدأ نسعى إليه، لان المبدأ يقوم على الأسس الدائمة الثابتة، وهذه بنظرنا تكون حزبا لا جبهة أحزاب. وما ذلك إلا لان حزبنا حزب انقلابي، والحزب الانقلابي هو الذي يؤمن بحل وحيد لمشاكل الأمة لا يرضى عنه بديلا ولا يقبل المساومة فيه، لذلك فهو يحرص على الاحتفاظ بهويته الخاصة وتكوينه المتين الذي لا تضيع حدوده وتلتبس بأحزاب وهيئات أخرى. وبذلك أيضا فهو يحرص على الصفة الموقوتة والعارضة للتكتل والتعاون مع غيره كما انه لا يقبل إطلاقا أن يكون التعاون على حساب مبادئه ولا أن يكون التكتل انحرافا به عن أسلوبه وتنظيمه.
والحزب الانقلابي الذي يؤمن بأنه هو الضمانة بالنسبة للشعب وهو المستقبل يحرص أيضا أن تكون نوعية الجبهة وهوية الهيئات المشتركة فيها منسجمة مع شعارات الجبهة. فالحزب مثلا في دعوته ومشاركته في تآلف وتعاون مع أحزاب وهيئات أخرى للنضال في سبيل مطالب وطنية ضد الأجنبي أو في سبيل مطالب عربية وداخلية، ظل خلال الحرب وفي السنوات الأولى التي تلتها يرفض مساهمة الشيوعيين ويعتبرهم غرباء عن هذه القضايا... لان موقفهم من هذه القضايا كان بالفعل سلبيا إذ كانوا يعارضون صراحة الدعوة للقضية العربية كما كانوا حلفاء لمستعمري بلاد العرب.. كما أن حزبنا رفض دائما التعاون مع الحزب القومي السوري ورفض إشراك هذا الحزب أو الالتقاء معه في أي تعاون أو تكتل. فحزبنا يفضل إذن ان يعمل مستقلا إلا في ظروف خاصة تقتضيها مصلحة الأمة ومصلحة الحزب فالحزب مثلا عمل في جبهات من عناصر وأحزاب بعيدة عن أهدافه وأسلوبه لمقاومة الحكم الدكتاتوري البوليسي في عهد الشيشكلي للأخطار الكبيرة التي كان يهدد بها استمرار هذا الحكم لكيان البلاد وكيان الحزب. كما ساهم حزبنا في التعاون مع الأحزاب والهيئات البرلمانية التي دعمت حكومة الائتلاف الماضية، وذلك لمقاومة سياسة معينة واتجاه خطر عند بعض الهيئات والأحزاب السياسية الأخرى في محاولتها جر البلاد لسياسة التعاون مع الدول الإستعمارية والانضمام لتحالفاتها العسكرية. ولكن عوامل تكوين هذه الجبهة وهذا الائتلاف والأسس التي قاما عليها، كانت في اكثرها سلبية وموقوتة إذ تتخلى العناصر المحافظة والرجعية عن المشاركة في مثل هذا التعاون عند أول خطوة ايجابية، لان الايجابية تعني دائما بالنسبة إلينا طرح حلول تقدمية وشعارات وأهداف شعبية بناءة وهذه تتعارض كل التعارض مع تكوين وأخلاق هذه الهيئات والأحزاب السياسية المحافظة.
لنعد هنا إلى جبهة ميثاق حمص، وهي التعاون الجدي الوحيد الذي اشترك فيه حزبنا مع أحزاب وجماعات أخرى على أساس التكتل في جبهة لها شروطها المعينة وأهدافها المحددة وميثاقها الواضح. ولنتوقف قليلا عند هذه الجبهة كمثال للتعاون، لنرى أسس ومبررات قيامها وفائدة الحزب منها.. في المرحلة الأولى من حكم الشيشكلي خلت ساحة النضال ضد الدكتاتورية والاستبداد إلا من العناصر النضالية لحزبنا، بينما اعتزل العمل والمساهمة القسم الكبير من السياسيين والأحزاب ليبقوا خارج المعركة وعلى هامش الحوادث يترقبون النهاية، وبقى حزبنا لوحده يعاني التنكيل والتشريد والسجن والاضطهاد، بينما كان الشيشكلي يسعى من جهته لاستدراج قسم من هؤلاء السياسيين والهيئات للتعاون معه وللسير مع حركته.
وأمام هذه الأخطار الكبيرة التي كانت تهدد حزبنا وتهدد شعبنا من استمرار هذا الحكم البوليسي الإرهابي، وقف حزبنا يدعو للتعاون وتجميع القوى بين كافة العناصر الخارجة عن حكم الشيشكلي والمتعارضة معه، للنضال ضد هذا الخطر المشترك وليقف بهذه الفئات والأحزاب موقفا معارضا يمنعها من الانزلاق نحو سياسة التعاون مع حكم الشيشكلي وليخرج بها عن موقف التفرج والانتظار، ولكن طبيعة هذه الأحزاب والهيئات وعدم استعدادها للتضحية وللسير مع حزبنا في عمل نضالي جريء، جعلها تستنكف عن مثل هذا التكتل والتعاون طيلة المرحلة الأولى من نضالنا السري، حتى إذا كان الظرف الذي أعلن فيه الشيشكلي دستوره واضطر معه إلى تخفيف جو الضغط والإرهاب في الفترة التي سبقت انتخاباته اهتبل الحزب هذه المناسبة وقام باتصالات واسعة مع عدد من الأحزاب والهيئات السياسية لتوحيد الجهود والقوى ضد حكم الشيشكلي. وكانت الخطوات التي سرنا بها نحو جبهة الميثاق -الجبهة التي كانت شعاراتها زوال الحكم العسكري- إطلاق الحريات العامة، وعودة الحياة الدستورية للبلاد، ودعت الجبهة إلى مقاطعة الانتخابات. ولم يخرج عن أجماعها في هذا الموقف إلا الحزب الشيوعي الذي اشترك في الانتخابات وبدل موقفه من حكم الشيشكلي منذ ذلك الحي،ن وقد تعرضنا لهذا الموقف في بحثنا هذا. وكان من نتيجة ذلك كله تأزم الأوضاع والظروف حول حكم الشيشكلي وإحداث العصيان والانقلاب عليه.
ففي جبهة ميثاق حمص كان حزبنا هو الداعي والموجه، كما احتفظ دائما بهويته وبشعاراته النضالية حتى ضمن الجبهة، وانصب جهده الناجح على تكتيل هذه العناصر إلى جانبه وعلى شق تعارض وافتراق كبير بينها وبين حكم الشيشكلي بإلزامها باتخاذ مثل هذا الموقف. كما حاول الحزب جر جماعات الميثاق نحو خطوة ايجابية في أن تتبنى في ميثاقها موقفا تقدميا واضحا في السياسة الداخلية والعربية والدولية، وهنا ظهر تردد هذه الجماعات، وإحجامها وحرصها على التعمية والغموض في بحث هذه القضايا، ولم تقبل في أكثريتها بمثل هذه الخطوة، الشيء الذي ظهرت نتائجه عند سقوط حكم الشيشكلي ودعوة جماعات جبهة الميثاق لوضع حل لقضية الحكم في البلاد وما رافق ذلك من مشاكل وأزمات.
والآن وبعد أن بينا موقفنا من التعاون مع الأحزاب والهيئات السياسية المحافظة والتقليدية.. لنعد لتحديد موقفنا العملي من التعاون مع الشيوعيين ومن دعوتهم التي يلحون علينا بها للاشتراك معهم في (جبهة وطنية).
يجب أن نفرق أولا بين الالتقاء والتعاون، وقد بينا في هذا البحث أن السياسة الشيوعية بعد الحرب العالمية الأخيرة لم تعد تصطدم بالمصلحة القومية العربية ذلك الاصطدام الفاضح الذي نتج أثناء الحرب عن تحالف الاتحاد السوفيتي مع الدول الغربية المستعمرة لبلاد العرب، وبينا انه باستثناء موقف الشيوعيين من تقسيم فلسطين عام 1947، فان سياستهم الخارجية في بلاد الشرق العربي على الأقل، كثيرا ما تلتقي مع سياسة حزبنا بالرغم من اختلاف الدوافع والأهداف. وقد يحدث هذا الالتقاء أيضا في بعض المواقف الداخلية ولكن هذا كله لا يعني أننا نتعاون مع الشيوعيين ولا يعني أن من واجبنا التعاون معهم. وكل ما يتطلب هنا هذا الالتقاء هو أن نتجنب الخصومة مع الشيوعيين في هذه الظروف لكي لا تتناحر أو تتبدد جهود القوى المقاومة للاستعمار. ويجب أن يعرف بوضوح أن السياسة الشيوعية هي التي تلتقي بين حين وآخر مع سياستنا القومية لا العكس. ذلك لان سياستنا تسير دوما في خط واحد وتتبع مقياسا واحدا هو المقياس الانقلابي للمصلحة العربية، في حين إن استناد السياسة الشيوعية إلى مقاييس خارجة عن نطاق الحاجات العربية يجعلها متقلبة. وهذا ما يطلب من الحزب توضيحه باستمرار منعا للالتباسات التي يتعمد خلقها الاستعمار وعملاؤه والرجعية الحاقدة على حركتنا، لكي يظهروا هذه الحركة بمظهر التابع المنقاد للشيوعية. وهذه الالتباسات يتعمدها أيضا الشيوعيون أنفسهم ليظهروا بمظهر الحزب المسيطر في التوجيه ولينالوا أيضا من هوية حزبنا القومية المستقلة.
وما دامت السياسة الشيوعية في التقائها مع سياستنا تنشد مصلحتها الخاصة فالتقاؤها هذا مفروض عليها من طبيعة مصلحتها ولا يتوقف على موافقة منا أو قبول بالتعاون معها لذلك لا تكون ثمة مبررات للتعاون مادام النفع حاصلا من مجرد هذا الالتقاء. وتقتضي الظروف أحيانا نوعا من التفاهم والاشتراك في بعض الأمور الجزئية كما جرى حتى الآن في مظاهرات الطلاب وكما تم في انتخابات حمص الأخيرة للكرسي النيابي الشاغر حيث التقينا مع بعض الهيئات السياسية ومن جملتها الشيوعيون لدعم مرشح حيادي تقدمي ضد التكتل الإقطاعي العائلي الذي كان يسيطر على مدينة حمص ويعوق تقدم الحركة الشعبية فيها. ولكن الشيوعية لا تكتفي بهذا الالتقاء وهذا التعاون الجزئي المحدود، بل تنادي دوما بقيام جبهة وطنية لمرحلة طويلة حول شعارات عامة كمقاومة الإستعمار وأحلافه العسكرية.
فلننظر الآن إلى الغاية التي تتوخاها الشيوعية من وراء تشكيل جبهة وطنية ثم إلى الفارق الأساسي بين هذه الجبهة وبين الجبهات التي يمكن تشكيلها مع الأحزاب الوطنية والتي تعرضنا لذكرها وأعطينا كنموذج عنها جبهة ميثاق حمص. وأخيرا وعلى ضوء فهم مرامي الشيوعية، وعلى ضوء التفريق بين هذين النوعين من الجبهات نستطيع أن نحدد موقفنا من دعوة الشيوعيين.
أما غاية الشيوعيين من تشكيل (الجبهة الوطنية) فهي:
1- كما سبق وبينا ذلك في أكثر من مجال من هذه النشرة فرض توجيهها على أحزاب وهيئات أكثرها فاقد التفكير المنظم والجدي والتنظيم الحزبي المتين.
2- أن تكسب الشيوعية أكثر فأكثر اعتراف الأحزاب الوطنية بشرعية وجودها وأهميته، الشيء الذي يزكيها لدى الرأي العام ويقويها.
3- أن تتصل بمختلف الأوساط والجماهير الشعبية عن طريق تعاونها مع هذه الأحزاب وان تتوسع بالتالي على حساب هذه الأحزاب.
4- أن تصل بنتيجة جمع مختلف الأحزاب والهيئات في جبهة واحدة، إلى تشويش هذه الأحزاب والهيئات في تفكيرها وأسلوب عملها وإظهارها كلها أمام الرأي العام في مستوى واحد لا فرق بين العقائدي منها والمصلحي الانتهازي، وبمظهر الأحزاب غير الممثلة للشعب وغير القادرة على مواجهته وتوجيهه دون واسطة الشيوعية.
5- وترمي الشيوعية بصورة خاصة إلى خلق هذا الالتباس حول حزبنا بالذات لطمس هويته الشعبية الانقلابية ووضعه في زمرة الانتهازيين والبورجوازيين.
ويقودنا هذا التحديد لمرامي الشيوعية إلى التفريق بين الجبهات التي يمكن أن تدعو إليها الأحزاب المحافظة، في الظروف وضمن الشروط التي حددناها سابقا (والتي تضمن لحزبنا تفوقا في التوجيه وقوة في الانتشار والنضال دون أن تعرض هويته واتجاهه لأي التباس أو ضعف أو تضع عقيدته في صراع واصطدام مع عقائد أخرى، بل على العكس تضطر الأحزاب المتعاونة معه إلى التخلي عن بعض مصالحها والسير في الإتجاه الشعبي التحرري) وبين الجبهة الوطنية التي يدعو إليها الشيوعيون والتي يؤدي اشتراكنا فيها إلى أخطار والتباسات لا بد من توضيحيها..
إن حزبنا حزب انقلابي قومي يطرح حلا وحيدا ويرفض كل ما عداه. والشيوعية هي أيضا انقلابية لها حلها الذي لا تتنازل عنه. إلا انه حل أممي يرتبط بمبادئ وأهداف الشيوعية العالمية وهذا هو أول اصطدام وتعارض أساسي يحول دون اشتراكنا مع الشيوعية في سياسة طويلة الأمد. ولئن قيل بان هذا الاختلاف العقائدي لا يؤثر في تعاون سياسي مؤقت.. فنجيب بان له نتائج عملية خطيرة، إذ لا يمكن فصل العقيدة فصلا تاما عن العمل السياسي، فكل كسب في العمل السياسي ينعكس على العقيدة الموجهة له ويقويها. إذن فمجرد اشتراكنا في جبهة مع الشيوعيين هو توجيه ضمني من قبلنا للشعب كي يتشكك في عقيدتنا وفي كونها الحل الوحيد الملائم لحاجاته. ونحن لا يضيرنا أن نتخوف من إتاحة الفرصة للشيوعية كي تكسب عطف الشعب وثقته على حسابنا ما دمنا نعرف أن الشيوعية تستند إلى قوى خارجية تفوق قوتنا بكثير، وان القوة الوحيدة التي نستطيع الاعتماد عليها لنشر عقيدتنا وتحقيق ظفرها هي في بقاء هذه العقيدة واضحة مستقلة بعيدة عن الالتباس ومتجسدة في نضال حزبنا وتنظيمه. ونحن لم نخف من التنافس الايجابي بيننا وبين الشيوعية، أي أن نعمل نحن والشيوعيون كل من جهته على كسب ثقة الشعب على أساس العقيدة والنضال الواضحين. ولكن الجبهة الوطنية التي يريدها الشيوعيون ترمي إلى خلق الالتباس حول عقيدتنا والى تجميد نضالنا وتشويشه بقيود وأساليب ليست من طبيعته.
والواقع أن اكبر خطر يكمن في الجبهة هو احتمال تجميد نضالنا أو تضييق مجاله ثم تبديل أسلوب هذا النضال. فالحزب الشيوعي لا يتضرر من تجميد نضاله أو تضييقه لأنه يبقى دوما مستفيدا من نفوذ الشيوعية العالمية وقوتها ورصيدها الثوري والنضالي لذلك يجيز لنفسه أن يساير أدنى المستويات النضالية وان يساير سياسات الحكومات والأحزاب المحافظة وان يسكت بالتالي عن كثير من الحاجات الشعبية دون أن يفقد صفته الانقلابية. أما حزبنا فليس له رصيد غير نضاله فإذا توقف عنه أو حد منه فانه يخسر شعبيا بنسبة هذا التوقف والحد. وأخيرا فالصفة الأممية للحزب الشيوعي واعتماده الرئيسي على قوته الخارجية يجيزان له ويدفعانه إلى التساهل والتقلب في أسلوب العمل فلا يتورع عن الانتهازية والمسايرة والمغالطة دون أن يعرضه ذلك لخسارة جدية في نفوذه وشعبيته. أما الصفة القومية لحزبنا، واعتماده الكلي على قوة الشعب العربي وإمكانياته الانقلابية، فيوجبان عليه أن ينتهج أسلوبا منسجما مع عقيدته الانقلابية وهذا فرق أساسي بيننا وبين الحزب الشيوعي. إذ أن حلنا الانقلابي القومي لا يكون قابلا للتحقيق إلا إذا حرك في داخل الأمة العربية الوعي الانقلابي والإرادة الانقلابية والقوى الشعبية التي تجسد هذا الوعي وتنفذ هذه الإرادة. وبتعبير آخر لا يكون لانقلابنا أي أمل في النجاح ما لم نسلك طريقا عقائديا واضحا يتجاوب مع النفسية الانقلابية، ولو أدى ذلك إلى أطالة الطريق وزيادة العقبات، لان شعبنا هو وسيلة الانقلاب وغايته في آن واحد.
فما هو إذن موقفنا من دعوة الشيوعيين إلى جبهتهم الوطنية؟..
يهمنا أن نؤكد حرص الحزب على النظرة العلمية الواقعية في رسم سياسته وخطوات نضاله، وعلى تجنب المذهبية الضيقة وما ينتج عنها من أفكار سابقة تباعد بين الحزب وبين تفهم الواقع الحي. وان كل ما أوردناه في صدد الجبهة لا ينفي نفيا باتا قاطعا إمكانية استجداد ظروف ووقوع اخطار في المستقبل تجعل تشكيل مثل هذه الجبهة مفيدا للقضية القومية رغم جميع المحاذير التي ذكرناها. ولكننا نجزم بعد ذكرنا لهذه المحاذير وتوضيحنا لخطورتها أن الظروف الحالية لا تبرر قيام هذه الجبهة واشتراكنا فيها بشكل من الأشكال. كما اننا نعتقد أن مبررات قيامها في المستقبل ستبقى ضعيفة ومستبعدة ما دام التقاء الشيوعية العارض مع بعض أهدافنا القومية العربية يؤدي الفائدة المرجوة من الجبهة دون أن يعرضنا لمحاذيرها وأضرارها.
ولا بد هنا من الإشارة صراحة إلى أن الرأي الذي يشجعه بعض الأنصار وبعض الأعضاء من القناعة باكتمال الشروط والظروف اللازمة لدخولنا مع الشيوعية في جبهة وفي عمل مشترك إنما مصدره تشوش في فهم قضايانا وشعور بالنقص أمام النشاط الشيوعي في العالم وأمام الغزو الفكري للشيوعية، والحزب مسئول إلى حد كبير عن هذا النقص إذ عليه ان يوضح دائما نظرته وأفكاره، وان يعلل بوضوح كل موقف من مواقفه. فالشيوعية لا تستفيد الا من العامية ونقص الوعي لفرض أفكارها وتبريراتها. ولا بد أن نشير أيضا إلى الرأي الخاطئ عند بعض الأعضاء والأنصار الذي يعتبر أن مهمتنا الأولى عداء الشيوعية ومقاومتها ومبادرتها الخصومة، فهذا ناشئ أيضا عن رد فعل لشعور اكبر بالنقص وعن فهم خاطئ لمهمة حزبنا وللمرحلة التي نجتازها في نضالنا ضد الفئات الرجعية الحاكمة وضد الإستعمار المتسلط على بلاد العرب. إذ يتبين من كل ما تقدم بان ايجابية حزبنا الأصيلة تمنعه وتقيه من أن يضيق ويفقر في الانحصار في مكافحة مذهب أو حركة مهما كان شأنها لان الأصل في حزبنا أن يبدع فكرا ونضالا وان يكون هذا الإبداع ذاته المانع لنشوء وانتشار الأفكار المنحرفة أو الخاطئة أو الضارة. وإذا كان الحزب قد وجد ضرورة في بعض المناسبات في الماضي، والتي قد تتكرر أيضا في المستقبل، لمهاجمة الشيوعية والاصطدام بها فليس يعني ذلك انه يرضى لنفسه أن يحمل مهمة مكافحة الشيوعية باستمرار وان تكون هذه أولى واجباته، لان هذا الموقف في حقيقة الأمور هو موقف الإستعمار وأجرائه. لذلك نحرص كل الحرص على أن نفرق بين موقف الحزب، وهو موقف سليم مستمد من رسالته ومن مصلحة الأمة العربية وحاجاتها، وبين الموقف المعادي والمكافح للشيوعية الذي هو موقف مصطنع لا يعبر عن الواقع ولا عن الحاجات القومية الجوهرية وإنما يستر عدا ضيق النظرة وسطحية الفكر، مصالح رجعية واستعمارية مفضوحة.
ولا باس من أن نعود في النهاية إلى ما قلناه في مطلع بحثنا عن وجود مستويين لموقفنا من الشيوعية الفكري والسياسي.. أما الفكري.. فهو موقف اختلاف أساسي مع النظرة الشيوعية لا يتساهل فيه الحزب قط وان كان لا يتجاهل بعض النواحي الايجابية البالغة الأهمية في النظرة الشيوعية. وأهم واجب على الحزب في هذا المستوى ليس هو الصراع والمكافحة والتهويش بقدر ما هو التوضيح الخصب الشامل بفكرة حزبنا وتعميم هذا التوضيح على أوسع نطاق ممكن اذ أن فيه وحده درءا لخطر التفكير الشيوعي وكل تفكير آخر خاطئ أو منحرف. وأما الموقف السياسي.. فيرسم على أساس الأخطار القائمة في الوطن العربي وتسلسلها في الأهمية، ومادام ثمة استعمار فلن تكون الشيوعية عدو العرب الأول بل قد تكون في بعض الظروف وفي هذه المرحلة التحررية الكبيرة عنصرا يستفاد منه مع الروية والحذر.
ولكن لا بد من التساؤل.. هل يجوز أن نفصل فصلا تاما بين موقفنا الفكري وموقفنا السياسي؟.. والجواب هو أن الفصل التام غير جائز في منطق فكرتنا وأننا ما دمنا نؤمن من جهة بان العرب لا يستطيعون أن يعتنقوا الفلسفة الشيوعية ونظرتها إلى الإنسان دون أن يتخلوا عن أثمن شيء في إنسانيتهم، ومن جهة أخرى بأن هذه الفلسفة الشيوعية، حتى بالنسبة إلى غير العرب، ليست الحل الايجابي الذي يمكن للإنسانية أن تطمئن إليه وتبنى عليه علاقاتها على أساس ثابت والى مدى بعيد، بالرغم من خطورة الدور الذي مثلته الشيوعية في حياة الشعوب في هذا العصر، ومن القفزة التقدمية التاريخية التي كانت أهم عامل في تحقيقها، نقول أن واجبنا القومي والإنساني وهما في حقيقة الأمر واحد، يدعواننا ألا نسترسل في سياسة واقعية بحتة هي عين الانتهازية فنتصرف في موقفنا العملي من الشيوعية على أساس المصلحة القريبة فحسب، واضعين اتجاهنا الفكري (على الرف) دون استلهامه والاهتداء به في إعمالنا السياسية، ودون أن نحاول باتزان وجهد تجسيد هذا الإتجاه في السياسة بشكل يوفق بين مبدئية فكرتنا وقابليتها للتحقيق وبعد هذه الفكرة عن خطر الانتهازية والخيالية على السواء.. وبتعبير آخر يجب أن نعتبر أنفسنا مسئولين ليس عن المستقبل القريب فحسب بل وعن المستقبل البعيد أيضا وان لا نسمح للشيوعية ان تصبح في يوم من الأيام منافسة جدية لحركتنا عند جمهور شعبنا.
عام 1956
(1) صدر هذا البحث في صورة (نشرة داخلية) خاصة بالأعضاء في أوائل كانون الثاني عام 1956، بالتعاون مع الدكتور جمال أتاسي، أي قبيل انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي.. فهو يتصدى للعقلية وللممارسات التي كانت تطبع الظاهرة الستالينية والتي كانت تنعكس على مواقف الأحزاب الشيوعية تجاه قضايا الوطن والأمة. وقد جاءت التطورات في المؤتمر المذكور، منسجمة مع التوقعات الايجابية الواردة في النشرة. والمقال الذي يحمل عنوان (العرب والاتحاد السوفييتي- حول زيارة شبيلوف) في الباب الثاني من الجزء الثاني من الكتابات السياسية الكاملة، معركة المصير الواحد يؤكد هذا الإتجاه.
(2) أنظر المادة "1" والمادة "2" من المبادئ لدستور الحزب.

(يتبع)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)موقفنا السياسي من الشيوعية موقفنا من الشيوعية(1)(79)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» في سبيل البعث - الجزء الأول :(الباب السابع:) موقفنا من النظرية الشيوعية(53)
» في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الرابع:)موقفنا من الحكومة الحاضرة(57)
» في سبيل البعث الجزء الرابع :(الباب الاول):حزب البعث العربي الإشتراكي يطلب ترخيص له رسميا بممارسة نشاطه السياسي(2)
» في سبيل البعث الجزء الخامس :(الباب الرابع:)معركة عراق البعث(67)
» في سبيل البعث: الجزء الرابع:(الباب الخامس:)البعث اشتراكية علمية زائدا روح(91)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى حزب البعث العربي الاشتراكي :: المنتدى الفكري والثقافي(حزب البعث العربي الاشتراكي-
انتقل الى: